قضايا وآراء

الدستور التونسي والاجتهاد في الشرع

امحمد مالكي
1300x600
1300x600

يُعتبر الدستور التونسي الجديد، الذي تم ختمُه بتاريخ 27 كانون الثاني/ يناير 2014، وثيقة مميزة بكل المقاييس، ويمكننا التأكيد، بدون تردد، أنه أجود ما شهدته حركة الدسترة العربية التي صاحبت ما سمي "الربيع العربي".


أما مصادر جودته وتميزه، فتكمن في منهجية بنائه وصياغته أولا، حيث كان محصلة نقاش داخل المجلس الوطني التأسيسي المنتخب، وفي تماس مع تفاعلات المجتمع المدني. كما حظي بما يُشبه الإجماع، من حيث فلسفتُه الدستورية، أي المبادئ والقواعد المتضمنة في أحكامه، حين وافق عليه 200 نائب في المجلس التأسيسي من أصل 217.


ويحق للأشقاء التونسيين في الواقع الاعتزاز بالطابع الديمقراطي لدستورهم، وبالمبادئ التي كرسها كحقوق وضمانات لحماية العيش المشترك، والمحافظة على ديمومته، ومنها ما ورد تحديدا في الفصول الثمانية والعشرين الواردة في الباب الثاني من الوثيقة الدستورية(ف.21ـ ف 49). علاوة على ما ورد في الباب الأول الخاص بالمبادئ العامة، لاسيما الفصل الثاني، الذي قضى بأن "تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعُلوية القانون"، مع حظر تعديل هذا الفصل.


تُسجل التجربة التونسية في عملية بناء الدستور الجديد (2014) تميزها بإطلاق نقاش عمومي واسع، عميق، ومنتظم حول التعاقد السياسي الجديد، الذي يجب أن يحكم سيرورة صياغة الشرعية السياسية بعد سقوط النظام، كما يُشهَد للمجتمع المدني، عبر كافة تعبيراته، يقظتَه السياسية والحقوقية، واستعدادَه للدفاع عن المكاسب، والسعي إلى انتزاع أخرى أكثر فعالية وشمولية. لذلك، اقتنعت مكونات وازنة من المجتمع التونسي أن الدستور الجديد أمدها بما يكفي من الأحكام والمقتضيات للاندفاع بعيداً في اتجاه إعطاء مضامين متطورة للمبادئ والقواعد الواردة فيها، بما فيها تلك التي تبدو للبعض غير خاضعة للاجتهاد والتجديد بسبب طبيعتها الثابتة والقطعية.


نُشير إلى أن رئيس الجمهورية " الباجي قايد السبسي" كان سباقا في فتح هذا الباب، حين عين "لجنة الحريات الفردية والمساواة"، وطلب منها تقديم اقتراحات بخصوص "المساواة في الإرث، وإلغاء المهر من عقود الزواج، وإسناد لقب الأم للأبناء عند بلوغهم سن الرشد، وزواج المسلمة من غير المسلم"، وهو ما حصل فعلا، وعرَّض المجتمع التونسي لجدل كبير بين من يؤيد رأي اللجنة، ويدعم اقتراحاتها، ومن يعترض عليها، ويعتبر اجتهادها في غير محله، لأنها خرقت القاعدة الفقهية المعروفة "لا اجتهاد مع  النص"، كما عبرت عن ذلك مؤسسة الأزهر، ومجموعة من أساتذة جامعة الزيتونة، وتفادت حركة النهضة، الحليفة لحزب الرئيس، في الدخول في هذا الجدل.


نُذكّر أن الرئيس التونسي أعلن عن تشكيل "لجنة الحريات الفردية والمساواة"، وحفزها على تقديم اقتراحات بخصوص هذه الموضوعات بمناسبة الاحتفال بالعيد الوطني للمرأة، وقد كان رأيه واضحا، حين طلب من الحكومة إيجاد "صيغة قانونية" لا تتعارض مع الدستور ومبادئه، ولا مع الدين ومقاصده، كما طلب منها التراجع عن منشور 1973، القاضي بمنع المسلمات من الزواج من غير المسلمين في تونس.


وقد يفهم من هذه الخطوة أن رهان الرئيس كان متوجهاً للنخبة التونسية القانونية والسياسية والاجتماعية في إيجاد صيغة توافقية للاجتهاد في ما كان يدعو الكثيرون بعدم الاجتهاد فيه، بل وما كنوا يعتبرونه خطوطاُ حمراء، لصلتها بالدين ونصوصه الثابتة والقطعية، كما هو حال " الإرث" بين الذكور والإناث، والزواج من الكتابيين، خصوصاً وأن المسلمين، والمجتمع التونسي جزء منهم، دأبوا لقرون على تطبيق هذه النصوص دون المس بجوهرها.


ففي الواقع شرعت تونس منذ إقرار دستور 2014 في إعمال أحكامه ومقتضياته، ومنها ما ورد في الفصل السادس والأربعين، الذي ألزم الدولة  بـ"حماية الحقوق المكتسبة للمرأة ودعمها وتطويرها"، و ضمان "تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة"، وتحقيق "التناصف" بينهما، واتخاذ "التدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضد المرأة". والحقيقة أن كل هذه المتطلبات الواجب اتخاذها من قبل الدولة، تدخل في باب ما هو ممكن، وجائز، ولا يُحدث شرخاً داخل المجتمع، لبعدها عن الشرع والطابع القطعي لنصوصه. ومن هنا يُفهم لماذا التفكير في اقتراحات في مجالي "الإرث"، وإباحة زواج المسلمات التونسيات من غير المسلمين، من الأمور التي اعتبرت جديدة ومستحدثة، وفتحت أبواب الاختلافات على مصراعيها في تونس.


رُب قائل يقول إن الطابع التوافقي للدستور، والمرحلة الانتقالية للتجربة التونسية، والإرث التاريخي الموسوم بالكثير من الإصلاحات، كلها عوامل سمحت لتونس أن تكون سباقة إلى الإقدام على اجتهادات في ما لم تستطع غيرها من المجتمعات العربية الإسلامية الإقدام عليها. غير أن سؤال الأسئلة المترتب عن هذه الخطوات الاجتهادية يدعو إلى معرفة إلى ما سيُفضي إليه هذا الجدل أو الخلاف؟ هل سيأخذ مداه الطبيعي ويساهم في انعطاف تونس ووعي نخبها ومجتمعها نحو تقبل هذا النمط من الاجتهاد؟ أم بالعكس سيعمق الاختلافات التي دبّت في المجتمع، ويدفع التونسيين دفعاً نحو التوتر، وربما الفتنة؟


تقديرنا أن الحكمة التي ميزت تونس في أعقاب سقوط النظام (2011)، وأمدتها بقوة الصبر والاتزان وهي تبحث بعناء عن التوافقات لبناء أسس شرعيتها الجديدة، هي الحكمة نفسها التي ستقود أبناءها نحو إدارة اختلافاتهم، وحتى صراعاتهم وتوتراتهم.

0
التعليقات (0)

خبر عاجل