قضايا وآراء

الدولة الحديثة ونقادها

عبد الرحمن أبو ذكري
1300x600
1300x600

أستطيع تفهُّم المعاناة النفسية الشديدة لبعض المثقفين والأكاديميين جرَّاء الانتقادات الموجَّهة للدولة الحديثة، خصوصا معاناة إخواننا الفلسطينيين، أو أصحاب الأصول الفلسطينية. فقد عاشوا هم وآباؤهم وأجدادهم، ثلاثة أرباع القرن؛ يحلمون بدولة "قومية" حديثة. دولة تتأكد فيها الهوية القوميَّة الفلسطينية المتخيَّلة؛ هوية الشعب الفلسطيني العضوي (الفولك volk)، وهو التصور الشائه الذي تشرَّبه الوجدان الفلسطيني من عدوه الغاصِب خلال مواجهته الثقافية الطويلة مع الوجدان الصهيوني.

وربما كان من المثير لأسى أصحاب هذه المعاناة أن أهم وأحدث الأعمال المدوَّنة في نقد الدولة الحديثة قد كتبه بالإنكليزيَّة أكاديمي فلسطيني الأصل، المسيحي المقدسي: وائل حلاق. إذ يبدو أن طول الشتات مع امتلاك ناصية الخطاب الفلسفي الغربي، وطول صحبة التراث الإسلامي؛ قد ساهموا مُجتمعين في تخفُّف حلاق من الأعباء النفسية والعاطفية، وأوهام الهويَّة الدولتيَّة؛ ليطَّرد بحثه الجاد بقدر كبير من الوعي والاتساق، منتهيا لاستحالة أسلمة تلك البنية الحداثية. وهو في ذلك يَقبِسُ من المشكاة التي قبس منها المفكر الفلسطيني المقدسي منير شفيق، حين دوَّن أول الأعمال العربيَّة في نقد الدولة الحديثة قبل عقود، على إثر تحوله من المسيحيَّة إلى الإسلام.

 

جعلت البنية العشائرية، التي تحكم الفضائيين الاجتماعي والسياسي لكل المجتمعات الملكيَّة العربيَّة؛ من الدولة مُرادفا للملك

نوعٌ آخر من المعاناة مع الأطروحات الناقِدَة للدولة الحديثة؛ هو ما يواجهه كثير من المثقفين والأكاديميين الذين يحيون تحت أنظمة ملكية، أو من تأثروا بمثقفين ومتفلسفين ممن يحيون تحت أنظمة ملكية. إذ جعلت البنية العشائرية، التي تحكم الفضائيين الاجتماعي والسياسي لكل المجتمعات الملكيَّة العربيَّة؛ من الدولة مُرادفا للملك، وجعلت من الأخير "شريكا" حتميّا في عملية "الإصلاح"، التي لا زالت تراوح مكانها أسيرة النموذج الرجعي للقرن التاسع عشر، وهو النموذج الذي يعتقِد استحالة "الإصلاح" بغير دعم الدولة/السلطان، حتى وصل الأمر بالبعض للتنظير لخرافة "المستبد العادل"، برغم التغير الجذري للسياقات. ومن ثم، صار الطعن في صحة إسلام الدولة عند هؤلاء كأنه طعنٌ في صحة إسلام الملك، وهو مقلوب سخيف لتصورات الجماعات المسلحة، التي فشلت أدواتها المعرفيَّة في اكتشاف البنية الإلحادية للدولة الحديثة؛ فكفَّرت حكامها اطرادا مع مُنطلقاتها!

كذا أدى انعدام تغول الدولة ومرونة مؤسساتها في البلدان الملكيَّة العربيَّة، علاوة على قوة بنية "الجماعات الوسيطة" التي ترتكِزُ على التركيبة العشائريَّة؛ أدى لجهل هؤلاء كُليّا بما يعنيه تغول سلطة الدولة في كل شيء، كما في حواضر العالم العربي الكبرى، الأكثر علمنة وترشيدا؛ التي ابتليت بحكام من العسكر الموالين للمستعمِر.

 

الملاحظ أن الإسلاميين الذين يبدون حساسية مفرطة تجاه نقد الدولة؛ أكثرهم من خريجي التنظيمات الإسلامية (أو دراويشها!)، أو من أبناء الدولة الحديثة


ملمح أخير لردود الفعل المرَضيَّة؛ هو ما يُبديه جمهرة جيل السبعينيات والثمانينيات (وبعض تلاميذهم من الأجيال اللاحقة) من الإسلاميين المؤدلجين والمسيَّسين لهذا النقد، وذلك بعد أن أنفقوا أعمارهم في محاولة أسلمة هذه الدولة ومظاهرها وتجلياتها، وتماهوا معها واندمجوا في بنيتها؛ حتى صار وجودهم ذاته مرتبطا بوجودها وشرعيَّتها واستمرارها، وهم في ذلك مُتسقون مع أصولهم الطبقيَّة وخلفياتها "الناصريَّة"، رغم أن السبب المعلَن لرفضهم هذا النقد كونهم يرونه من قبيل التآمر على "تعطيل الشريعة"!!

ومن الملاحظ أن الإسلاميين الذين يبدون حساسية مفرطة تجاه نقد الدولة؛ أكثرهم من خريجي التنظيمات الإسلامية (أو دراويشها!)، أو من أبناء الدولة الحديثة والعاملين في دواليبها، والداعين لجريمة تقنين الشريعة وتقييد رحابتها في قوالب القانون الوضعي القاصِرة. إنهم في الحقيقة يدافعون عن الشكل الوحيد الذي عرفوه من أشكال التنظيم السياسي والاجتماعي: البنية الهرميَّة. وهي نتيجة الجدب الروحي وفقر الخيال والأدوات، والعجز عن تجاوز واقع الاجتماع السياسي الإلحادي إلى أفق اجتماعٍ سياسي توحيدي يحتاج غزله ونسجه لزمان طويل. إنه دفاع عن مصدر شرعيتهم وسبب وجودهم: الدولة.

ويجدر بهؤلاء جميعا - وأمثالهم - التأمُّل في حقيقة كون أوائل نقاد الدولة الحديثة العرب في هذا الجيل ليسوا من أصحاب الانتماءات التنظيمية، ولا هم من أبناء البيروقراطيات الحكومية، لكن الأكثر أهميَّة أنهم يحيون جميعا في بُلدانهم "الحديثة"، ويصدر نقدهم عن تجربة ومعايشة يومية. وبعبارة أخرى؛ فهو نقدٌ باهِظُ الثمن؛ لأنه يصدر من داخل هذه الدول وتحت سمع ونظر أجهزتها، ولا يصدُر عن إسلاميي الشتات أو مثقفي المهجر، الذين يسبون الأنظمة السياسيَّة العربية العميلة وهم في مأمن، وينامون كل ليلة ليحلموا بـ"خلافة ديمقراطية" متوهَّمة، لا تختلف في الكثير عن دولة العراق والشام "الإسلاميَّة".

 

وتفكيك الدولة الحديثة لا ينكر أهمية السلطة السياسية في الإسلام ومحوريتها، لكنه ينزع عنها المركزيَّة الوثنيَّة التي اكتسبتها في حقبة ما يُسمَّى إعلاميّا بـ"الإسلام السياسي"

أخيرا، وليس آخرا، فإن نقد الدولة الحديثة هدفه تقويض صنمها الذي يحول، نفسيّا على الأقل؛ بين المسلمين وبين فطرتهم وقدرتهم على غزل ونسج اجتماعهم السياسي الخاص بمغزَل الوحي الإلهي إذ يتجسَّد في أناسي.

وتفكيك الدولة الحديثة لا ينكر أهمية السلطة السياسية في الإسلام ومحوريتها، لكنه ينزع عنها المركزيَّة الوثنيَّة التي اكتسبتها في حقبة ما يُسمَّى إعلاميّا بـ"الإسلام السياسي"، ويُنزِلها منزلتها بغير تفريط أو إفراط، بوصفها مآلا توفيقيّا لا توقيفيّا.

هذا التفكيك يضع الوحي، والدعوة المجردة إليه؛ في مركز الوجود، كنطاقٍ مركزي يُعيد تشكيل الاجتماع السياسي على أسس لا تعتسِفُ التأويل الأيديولوجي للسيرة النبوية لخدمة واقع متردي، وإنما تطرد مع تمثُّل الوحي والسيرة والانصياع لهما وتجسيدهما، وصولا لنموذج سياسي لا نعرف شكله على وجه التحقيق، وقد لا نعرفه في القريب. وإن كنا نثق بمقدرة الوحي وسيرة المعصوم صلى الله عليه وسلم وسُنته على توليد النموذج الملائم في الوقت الملائم والمكان الملائم؛ في مجتمع استسلم ابتداء للحاكمية الإلهية. في مجتمع صار فيه القرآن وازعا أقوى من وازع السلطان.

التعليقات (0)