كتاب عربي 21

مصر بين "التثفيل" و"التسفيل"

أحمد عمر
1300x600
1300x600
قلت لصديقي نوري سانشو: إن التسمية أول المعرفة وأول الملكية. واستشهدت له بالأمثلة، فقلت: إن الله فضّل آدم على الملائكة بالأسماء، فسجدوا له إلا إبليس أبى، "قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ"، كأنه قال: أنا ابن ست، وهو ابن جارية. وفي شعر بشار بن برد، دفاع عن عابد النار: الأرضُ مظلمةٌ والنارُ مشرقةٌ - والنارُ معبودةٌ، مذ كانت النار. وقلت: إن إسرائيل تدعي أنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وما توسّخ إلا منها، وأية دولة عربية طينية تحاول منافستها، يجري ضرب ثمارها بالنار المعبودة. فالجندي الإسرائيلي المسلّح، لا يخرج إلا مسلحاً بالنار، قبل أن تؤتي الشجرة أكلها.

الأحزاب والقوى والدول، تدرك معنى الأسماء وقوة التسمية، وأول درجات الامتلاك والهيمنة هي التسمية، خذ مثلا: قوات سوريا الديمقراطية، المدعومة من روسيا وأمريكا، خذ مثلا، وأهداف حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا الأسد، خذ جائزة نوبل للسلام، وقد مُنحت لقتلة، وصاحبها أكبر قاتل في البشرية برمتها. والإعلام يقوم بالتزوير والنفير هذه الأيام، ونحن الضحايا. وخلصتُ إلى أمرٍ آخر، فقلت لسانشو: إني كنت أحفظ في أيام المدرسة أسماءً ومصطلحات صعبة، ولو كان المعلم مقتدراً، لسهّلها علينا. وإن كتّاب الحداثة يختبؤون خلف المصطلحات الغامضة، فهم مثل الكهنة، أما علماء السلف الصالح، فكتبهم يفهمها العامة والخاصة. ومع التصوف صارت الأسماء والعبارات خاصة وغامضة، وذكرت مثالاً عن معلم علوم طبيعية، كان يدرك أهمية إثارة عقولنا بالأسئلة، فيسألنا سؤالاً، فننشغل به، حتى يستقر في عقولنا، ثم يعطينا الجواب. وأذكر أني كنت في الصف العاشر، عندما سألنا ما التثفيل؟

ثم عرّفنا بالجواب، وهو تعريض العينة لدوران سريع جداً في المخبر. ولو كنت محله، لسهّلتُ الجواب، وقلت: التثفيل هو ترسيب السائل لتحصيل الثفل، أو التفل، وكلنا نعرفه من ثمالة فنجان القهوة، وهو الرسابة من الماء ونحوه، كما يقول المعجم. فنحن نعرفه، لكنه غاب عنه وعنا، فاضطرّنا إلى حفظ ما نعرفه.

وقلائل من المدرسين كانوا يحققون شرط المعلم النبيه النابغة. فالبعث الحاكم كان يدمر المجتمع، ويميته، وكان بعكس اسمه. عدنا إلى الأسماء، وكان في سوريا شعار طرزت به الحيطان، وهو قول للأسد: "المعلمون بناة حقيقيون"، وقد تحوّل المعلمون إلى بناة حقيقين، يعملون في "الباطون"، حتى يعيشوا، وعشت حتى رأيت معلمين يعملون لدى طلابهم ندّلاً، أي خدماً، وجرسونات، وما كانت مسرحية مدرسة المشاغبين لتفعل فعلها التدميري لو كان النظام العربي في مصر وسوريا، وبقية الأقطار يقف للمعلم ويوفهِ التبيجلا.

أما سبب تذكري للتثفيل، فهو أن البلدان العربية تتعرض للتثفيل. قال المعلم علي الطنطاوي، وهو أحد معلمي القرن الكبار، ولم يرد ذكره في كتاب "رواية اسمها سوريا" التي اختار مبوّبُوها أن يصدروا أَعلامهم آخرين.. والطنطاوي رائد في فن القصة أيضاً. قال في صفات المعلم:

"وأنا أحمد الله على أني كنت معلّماً ناجحاً. لا أقول ذلك عن نفسي وحدي، بل يشهد به تلاميذي على مدى إحدى وستين سنة، منذ بدأت التعليم .. وكان من أسباب توفيقي ثلاث، أوصي بها من أراد أن يكون معلّماً ناجحاً:

أولها: استيعاب المادّة التي يدرّسها والإحاطة بها، والرجوع إلى كلّ كتاب يصل إليه من كتبها، لا يقتصر على الكتاب المقرَّر. أما في الجامعة، فلا يجوز أبداً أن يُقرَّر كتاب بعينه لا يرجعون إلاّ إليه، ومن يفعل ذلك من الأساتذة يكن معلّم مدرسة ابتدائية لا أستاذاً في جامعة.

الثاني: أن يسلك إلى أفهام الطلاّب كل سبيل، فإن ساق المسألة بعبارة لم يفهموها بدّل العبارات حتى يصل إلى العبارة التي يستطيعون أن يفهموها، وما دامت مسائل العلم في ذهنه وكلمات اللغة بين يديه سَهُلَ ذلك عليه. أما الشرط الثالث: فهو أن يكون طبيعياً. فإن لم يعرف المسألة قال للطلاب: إني لا أعرفها، وإن أخطأ قال لهم: إني أخطأت فيها".

ونعود إلى السياسية، وقد صار الطاغية، المعلم الأول، تقف له الجماهير وتوفه التبجيلا، في كل الأيام وليس في يوم المعلم، والناس تقتدي بالمعلم الأول، فصار أكثر الموظفين في الدولة لصوصاً، مثل "اللص الأول" في مصر، الذي لا يكتفي ببيع الجزر، بل يطمع في الفّكة أيضاً. وغير خافٍ على أحد أن النفط في سوريا كان بأيد أمينة، وكان البرلمان مختاراً بعناية، صنع كل أعضائه على عين الرئيس. وكان يمكن للأسد أن يضع النفط في يد البرلمان، فنعلم أين تصرف أثمانه، لكنه كان يودعها باسم ابنه في بنوك أوروبا، فأخذ الله ابنه أخذ عزيز مقتدر. أما السيسي، فهو يقتدي متأخراً بالأسد، وقد أعلن ذلك إعلاميوه إعلاناً، وقد قيل له إن الموظفين يرتشون فضحك، والضحك علامة الرضا.

قال نوري: خال.. شردت بعيداً.. عد بنا إلى التثفيل؟

فرويت له قصة الفلاح المصري الذكي، الذي كان يحمل جرذاناً إلى مخبر علمي مصري، وهي الحيوانات المفضلة في المخابر لشبهها الحيوي بالإنسان، وكان يخضّ الكيس كل ساعة، فسأله جاره: لمَ تخض الكيس؟ فقال: في الكيس جرذان، حتى تتصارع، ولا تعمل مظاهرة من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.

لخصتُ درسَ التثفيل بدرس معاكس عن التزكية:

لما أُتِي عمر بتاج كسرى وسواريه، جعل يُقلبه بعود في يده ويقول: والله إنَّ الذي أدَّى إلينا هذا لَأمين. فقال رجل: يا أمير المؤمنين أنتَ أمينُ الله يؤدُّون إليك ما أدَّيتَ إلى الله، عففت فعفّوا، ولو رتعت لرتعوا. قالَ: صَدَقْتَ.


قال نوري: لا تثفيل، ولا تسفيل ، نحن في عصر التبغيل.
التعليقات (0)