صحافة إسرائيلية

لماذا تراجعت ثقة الجمهور الإسرائيلي في جيش الاحتلال؟

أ ف ب
أ ف ب

رغم الهالة الكبيرة التي رسمها الجيش الإسرائيلي لنفسه خلال السنوات والعقود السابقة، لكنه في الوقت ذاته يعاني من إشكاليات جوهرية، ولم يعد هذا الجيش في "سلم بياني" متصاعد على طريق تحقيق الإنجازات، بل بات يعاني من جملة مخاطر أصابته، داخلية وخارجية، بنيوية وسلوكية وتأهيلية وأمنية.

ربما تشير الصورة الظاهرية والفكرة المتجذرة داخليا إلى أن كل من خدم ويخدم في الجيش الإسرائيلي له مكانة كبيرة في المجتمع الإسرائيلي، مما يمنحه الاحترام الكبير والتقدير الوافر، وبالتالي فقد فرض أمرا واقعيا، يتمثل بأن رافضي الخدمة، وبصورة تلقائية ومباشرة، يتحولون لمنبوذين، بل إن بعض وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية تعتبرهم ساعدوا "العدو الفلسطيني" ضدّ دولتهم التي أنجبتهم.

ليس معروفا حجم التقارب بين الجمهور والجيش في المجال الاستراتيجي الإسرائيلي، فالخدمة العسكرية التي كانت ذات مرة عاملا مركزيا في "الانتماء المدني" للدولة، باتت عاملا هامشيا في الكثير من القطاعات، ومن بين المظاهر المختلفة للتغيير في العلاقات بين المجتمع والجيش، ثمة مظهران يستحقان الاهتمام الخاص:

 

الأول: الانخفاض في مكانة الخدمة العسكرية كتعبير للانتماء المدني.

 

الثاني: تفكك الامتيازات التي منحت للجيش في السابق، كالحصانة من الانتقادات العامة.

 

اقرأ أيضا: ارتفاع في حالات التحرش داخل الجيش الإسرائيلي

كما برز الانخفاض بمركزية مكانة الجيش في الوعي الثقافي للمجتمع منذ وقت طويل على عدة مستويات، أبرزها ما قاله رئيس هيئة الأركان السابق أمنون ليبكين شاحاك في تشرين الأول/ أكتوبر 1996 في خطاب تأبين إسحق رابين: "كم ابتعدنا أيها القائد، عن الأيام التي كان فيها الزي العسكري، مصدر فخر واعتزاز.. إن التهرب من الخدمة العسكرية لم يعد وصمة عار في جبين المتهرب، وإن العطاء، تطوعا وعن وعي وبدافع الرغبة في الإسهام بحفظ أمن الدولة، لم يعد يحظى بالتقدير المناسب".

هذه الكلمات تشير بصورة أو بأخرى إلى طبيعة العلاقات السائدة اليوم بين المجتمع والجيش الإسرائيليين، ففي حين كانت هذه العلاقة قبل عقد أو عقدين مفهومة، فإنها اليوم باتت تتصدر مركز قلق الجيش، الذي يعتبر مهمة الحفاظ على مكانته في قلب الوعي الوطني من مهامه الرسمية.

ومنذ حرب 1973 تقوضت لأول مرة مكانة الجيش كإطار لا يمكن أن يخطئ، ووجد نفسه في نهاية حرب يخوضها ضدّ تدني مكانته في نظر الجمهور، وساعد في هذه المسألة الطابع الفاشل لمعظم نشاطاته الميدانية في السنوات التالية، خاصة الحرب اللبنانية 1982، والانتفاضتين 1987 و2000، والحروب الأخيرة في لبنان وغزة.

استمر تدني هذه المكانة للجيش بصورة غير متوقعة، وصُبِغ بإثباتات مخيبة للآمال على قدرته المهينة وغير المناسبة، وعلى التدني الأخلاقي على مستويات قيادية مختلفة فيه.

هذه التطورات لم تمكن الجمهور الإسرائيلي فقط من دراسة نشاطات الجيش بعمق أكبر، بل تضاعفت من خلال وسائل الإعلام الإلكترونية والمكتوبة، ورغم أن تأثيرها ما يزال قويا، لكن الجمهور الإسرائيلي أصبح يعلي صوته أكثر فأكثر في قضايا تتعلق بسلوك الجيش في مجالات حساسة، وهو ما أدى في إحساس الجيش بأن مكانته آخذة بالتآكل.

ولم يعد الجمهور يؤمن بأن الجيش الإسرائيلي هو الأقوى في العالم، على العكس، فإن الإسرائيليين اليوم أقل تفاؤلا وأكثر خوفا، وفقا لمعلومات مستقاة من معطيات مقياس المناعة القومية السنوي الذي عرض في مؤتمر هرتسيليا قبل سنوات.

وأجرى الأستاذ الجامعي غابريئيل بن دور استطلاعاً لـ26 ألف يهودي وعربي، في عامين متلاحقين، وتركزت أبرز اتجاهات نتائجه في انخفاض ثقة الجمهور بالجيش، وعدم يقينه بقدرة الجيش على الحسم أمام الأعداء، وهكذا بدا واضحا أن هناك إضرارا كبيرا في ثقة الجمهور بقدرة الدولة على مواجهة تهديدات خارجية، وهو يميز بين المناعة الاجتماعية للدولة، وبين القيادة العسكرية، التي لم تثبت توقعاته السابقة.

كما أفاد استطلاع للرأي أجرته صحيفة هآرتس بأن ثقة الشباب الإسرائيلي في الجيش، انخفضت بنسبة 7% خلال السنوات الأخيرة، مما يزعج القيادة العسكرية، التي أجرت استطلاعات سرية أعطت نتائج مشابهة في الماضي، وأقيمت لجنة خاصة في الجيش؛ لمعالجة المشكلة وإعادة الثقة للشباب ومنع تدهور الوضع أكثر.

قسم علوم السلوك، الذي يدرس مواقف الجيش، سأل جنود وضباط الخدمة الدائمة سؤالا بسيطا: كيف برأيكم يُنظر إلى المهنة العسكرية في أعين الإسرائيليين؟ أجاب 61% من الضباط أن المجتمع المدني يرى في الخدمة العسكرية مهنة اعتبارية، وفي سنوات لاحقة قدّر 26% فقط منهم أن مهنتهم تعتبر في الخارج اعتبارية، وكل الباقين مقتنعين بأن الجمهور ينظر إليهم نظرة سلبية، ومع مثل هذه الصورة القاسية من الصعب بثّ روح حقيقية في الجيوش، والانتصار في الحروب.

وإثر حروب لبنان وغزة الأخيرة، كان من الواضح أن المطالبات الرسمية والشعبية بتشكيل لجان للتحقيق في أداء الجيش، ستطال في نهاية الأمر أولئك الكبار الذين قادوا المعارك، مما دفعهم في معظم المراحل إلى العمل على منع تشكيل لجان تحقيق رسمية تمتلك وسائل حقيقية، و"أسنان حادة قابلة للغرس" في أجساد المسؤولين عما لحق بالدولة في تلك الحروب، لكنهم يخفون دوافعهم خلف تعليلات مفتعلة ومصطنعة.

وحتى لو لم تشكل لجان التحقيق، فإن التعبير عن الغضب والخذلان بات يسمع من أفواه جنود الاحتياط والنظاميين، وسيستمر يتردد في البيوت لسنوات طويلة، خاصة بعد التشويش الذي حصل في اتخاذ القرارات، والإحساس بالضياع لدى الجنود غير المدربين وقليلي التجهيز المناسب، ومن الأوامر المتضاربة والمتغيرة باستمرار، وقلة التنسيق، وعدم الفهم للمهمات والأهداف، كل ذلك أدى لفقدان الثقة بالقيادة العسكرية.

وبذلك فإن رئيس هيئة الأركان مسؤول عن عدم ثقة الجمهور بقوة الجيش، وسيكون مسؤولا عن عدم التزام جنوده لأوامره مستقبلا، حتى إذا كان هناك مسؤولون آخرون من تحته ومن فوقه، فهو المسؤول بناء على وظيفته، عن كل الأخطاء والفشل الذي يظهر في تشغيل وتنفيذ المهام بالقوة المسلحة.

الخسارة الأكثر فداحة التي تكبدها الجيش في مجال ثقة الجمهور به، تمثلت في قول أحد أكبر المعلقين الإسرائيليين إنه لا داعي لتشكيل لجنة تحقيق رسمية، لسبب واحد بسيط: لأن الجيش، والحكومة من خلفه، يعترفان في واقع الأمر بأنهما فشلا، ولم يتبقَّ أمام اللجنة إلا تحديد حجم الفشل، ومسؤولية كل واحد من قادة الحكم عنه، فرادى ومجتمعين.

كما ورد على لسان قائد لواء عسكري إسرائيلي أن "مشكلة الجيش المركزية اليوم ليست ضعف الانضباط، بل ثقة المواطنين والدولة، وثقة القادة بجنودهم بسبب ما حدث في الحروب الأخيرة، الآن، الجيش أمام مشكلة أخرى مغايرة، وهي عدم ثقة الجنود بقادتهم الذين لم يستخلصوا العِبر من تلك الحروب مع لبنان طوال أكثر من عقد من الزمن، هذه أول مرة يفقد فيها الجنود، خاصة الاحتياط منهم، الذين هم جنود مقاتلون، قدامى وشجعان، ثقتهم بقادتهم".

هذه الثقة التي باتت مهزوزة بعد الحروب الأخيرة، نجمت عن حالة لم يعهدها الجيش، فقد تم الإعلان عن اتفاقات لوقف إطلاق النار في أوضاع هي الأسوأ بالنسبة لـ"إسرائيل"؛ فهي ليست في حالة انتصار ولا انهيار، بل في حالة من الفشل الطبيعي، حروب كان فيها عدد كبير من المقتادين، دون أن يكون فيها قيادي واحد، وعرفت قدرا كبيرا من عجرفة القادة الكبار، ومن الخطابات "التشرتشلية"، مع قدر قليل جدا من التفكير فيما تريده "الدولة"، وما تسعى إليه في هذه الحرب.

 

اقرأ أيضا: كيف يبدو الجيش الإسرائيلي من الداخل؟

المتسبب الوحيد بأزمة الثقة التي ألمت بالجيش ومن حوله هم قادته، الذين دخلوا الحروب بـ"نعالهم الكبيرة" دون أن تكون لديهم مزايا القائد الذي يسير الآخرون وراءه.

كما تجلت أزمة الثقة في الجيش، ليس من حملة الانتقادات القادمة من الخارج، بل من الأصوات التي خرجت من داخل المؤسسة والبيت؛ فقد انتظمت مجموعات من ضباط الاحتياط، من رتبة عميد فما فوق، للشروع في كفاح جماهيري لتشكيل هيئة خارجية تحقق في سير الحروب، وقال بعضهم: رأينا بأم أعيننا أخطاء جسيمة جدا ارتكبت في الحروب، دفعنا بسببها أثمانا باهظة.

الخطر الأشد جسامة الذي وقع فيه الجيش الإسرائيلي، فضلا عن أزمة الثقة الداخلية بين قادته وجنوده، وما كشفته الحروب الأخيرة عن استخبارات رديئة و"غطرسة" بعض القادة، أنها ستؤثر على صورته بنظر أعدائه، وتأثيره الحاسم على قرارهم بالشروع في حروب المستقبل، أو إطلاق الصواريخ على العمق الإسرائيلي.

التعليقات (0)