كتاب عربي 21

تحالف "الميديوكريت" المميت

جمال الجمل
1300x600
1300x600

(1)
تابعت موكب التبجيل الذي رافق عودة جثمان الصحفي المصري إبراهيم نافع، مشفوعا بعبارات توقير تجاوزت العزاء، إلى نصوص وذكريات تمدح في سيرته ومآثره ونواهته ومهنيته، بل وإنصافه وعدله، سواء كرئيس لمؤسسة الأهرام أو كنقيب للصحفيين. وفي البداية شعرت بالارتياح لذكر بعض الكلمات الطيبة عن المسؤول الذي لاحقته اتهامات بالفساد، وتصورت أن المديح مجرد رد فعل انعكاسي على ظاهرة التشفي في الموتى التي أساءت إلى أخلاقنا العامة في السنوات الأخيرة تحديدا، لكن مجاملة "ذكر محاسن الميت" تحولت إلى خطة ممنهجة لغسل سيرة مسؤول فاسد، وإعادة تقديمه كرمز وطني تتجسد فيه القيم المهنية، والنزاهة الإدارية، والاستقلال السياسي، والعدل الاجتماعي.. وحينها شعرت بالقلق، فكتبت تنبيها قصيرا قلت فيه: "إن الموت لا يجعل الشخص السيء نبيا.. طبعا لا بد أن نتوقف عن ضرب الميت أو لعنه، حيث يمكننا أن نترحم عليه في العموم مع بقية الأموات، ويمكننا أن نسكت عن ذكره، لكن لا يصح أن نزيف تاريخ "شخص سيئ" بالتزيد في العزاء إلى درجة غسل فساد الفاسد قبل غسل جثمانه. إن إبراهيم نافع كان علامة بارزة في نظام الفساد والإفساد، والأدلة كثيرة. وأُوَضِح أن أخلاقه الشخصية لا تعنيني، فهي تهم عدة آلاف ممن يعرفونه ويعرفهم، أما أخلاقه العامة في السياسة والإعلام، فتمتد آثارها إلى الملايين.. رحم الله إبراهيم نافع الفرد الذي لا أعرفه، أما الصحفي والنقيب وربيب نظام مبارك، فيجب أن نحاسبه حسب انحيازاته الإنسانية والمهنية، وحسب رؤيتنا لعلاقة المثقف بالسلطة".

(2)
ظاهرة مديح إبراهيم نافع ليست مهمة في ذاتها كحالة فردية، لكنها مهمة جدا كظاهرة عامة تكشف لنا كيف تعمل "آلة الترميز"، وكيف تعمل "شبكة المصالح"، وكيف تتم عملية تفريغ المجتمع من قيم الثورة والعدل، لتمتلئ شوارعنا وعقولنا بتماثيل الفاسدين والخونة، ممن أهدروا فرص النهوض، وكرسوا دوران مجتمعاتنا في فراغ التخلف، طالما يخدم مصالح القلة المسيطرة المنتفعة، وهو المرض الذي يمكن تسميته بأكثر من اسم، منها "تحالف الميديوكريت" الذي أفرز لنا رئيسا جاهلا، معدوم المواهب والتفكير مثل عبد الفتاح السيسي، ومعه طبقات داعمة لا تقل عنه جهلا وانتهازية. والمصيبة الأكبر، أن الجهل عندما يرتبط بالسلطة لا يصبح "جهلا بريئا" نتيجة عدم توفر فرصة للتعلم، لكنه "الجهل المتسلط" يتحول إلى علم وفلسفة، وربما ألوهية عمياء، حيث يتصور صاحبه أنه "طبيب للفلاسفة والحكماء"، وأنه وحده الذي يفهم، والذي يحق له الكلام وإلقاء المواعظ والوصايا على القطعان الجاهلة. وهذه مصيبة المصائب التي أوقعتنا فيها "عصابة الميديوكريت".

(3)
كلمة "ميديوكريت" مصطلح شائع في الغرب؛ يمكن ترجمته مجازيا بكلمة واحدة فصيحة، هي "الرداءة". وأظنها لا تكشف عن كل جوانب المصطلح، لذلك أقترح له عدة ترجمات بالعامية المصرية منها: "بين البينين"، "نص نص"، "على ما تفرج"، "مشي حالك"، "سد خانة"، أو حسب تعريفي الخاص "كأنه".. كأنه كاتب، وكأنه مذيع، وكأنها مدارس، وكأنها شوارع، وكأنها دولة، وكأننا بشر، وكأنها عيشة، وكأننا نعيش.. هذا الغش هو الذي يجعل من "الميديوكريت" زعماء ومفكرين ومشاهير في كل مجال، عن طريق تجميل الفساد القبيح أو إخفاؤه تحت أقنعة الرفاهية الكاذبة، وغواية الإعلانات الخادعة، وشهوة الاستهلاك المشروع، لتكريس حضارة اللصوص والمحتالين وأنصاف المتعلمين، وسدنة الرداءة، وخداع الناس بالقشرة اللامعة التي تروج للمعدن الرخيص باعتباره ذهبا، وتلوث كل شيء في حياتنا، من الدواء والغذاء حتى الفن والترفيه، مرورا بالأفكار وجوهر العلاقات الإنسانية. وما يهمنا في حكاية إبراهيم نافع، وقبله وبعده كثيرون، أن "تحالف الرداءة" يدافع عن وجوده من خلال الدفاع عن قيم الرداءة والتشوه، ويسعى لتبجيل الفاسدين من أنصاف الموهوبين، وتسويقهم للناس باعتبارهم "رموز عظيمة"؛ لأن ذلك الاتجاه لا يفيد الميت بقدر ما يفيد أشباهه الأحياء المسيطرين برداءتهم وسطحيتهم من أمثال: ضعوا ما تشاؤون من أسماء لامعة على السطح، فلن تخطئوا في أي اسم من نجوم المرحلة المنحطة.

(4)
المفاجئ أنني لم أتصور مناقشة هذه القضية من خلال إبراهيم نافع، حيث لا تربطني به علاقة من أي نوع، لكنني تذكرت موقفا واحدا كتبت عنه في سلسلة مقالات "خريف التخاريف"، ردا على كتاب الصحفي الميديوكريت عادل حمودة عن محمد حسنين هيكل، فقد كتبت مقالا لصحيفة "أخبار الأدب" عن أزمة "فطيرة الدم"، لكن رئيس التحرير اعتذر عن نشره، مبررا ذلك بأنه سيغضب "إبراهيم سعدة، ولما سألت: وما علاقة سعدة بالمقال؟، جاءني الرد: لأ.. سعدة هيغضب علشان المقال يمس إبراهيم نافع من بعيد. وهكذا تواصل منع نشر المقال في ست صحف مصرية، بالإضافة إلى صحيفة عربية كان يدير مكتبها بالقاهرة واحد من "الميديوكريت العظام"، وقد وجدت تفاصيل أكثر بالأسماء للقصة في مقال "خريف التخاريف3"، أنقلها لكم: كان المقال بعنوان: "فطيرة الدم.. فرصة لإعادة نشر صورة الإمبراطور العاري". لكن رئيس التحرير المثقف "ج.غ" اعتذر لعدم قدرته على نشر المقال؛ لأن العلاقة بينه وبين رئيس مجلس الإدارة متوترة، والمقال سيتم تأويله باعتباره جزءا من مؤامرة ويستخدم لزيادة التوتر في ذلك الوقت، كان الزميل عبد الله كمال مسؤولا عن صفحات الرأي في مجلة "روز اليوسف"، ولما عرف قصة المقال طلبه مني، مؤكدا أنه سينشره في العدد التالي. وبعد يومين، اتصل بي عبد الله معتذرا؛ لأن نشر المقال قد يغضب الأستاذ محمد عبد المنعم (رئيس التحرير) فينقلب عليه، والأجواء في المجلة مليئة بالصراعات (حسب كلماته)!

(5)
هل يتضمن المقال قنبلة موقوتة يخشى منها الجميع؟

هكذا سألني رئيس تحرير صحيفة مستقلة، فقلت له ببساطة إنه مقال عن قضية "فطائر صهيون". قال بجدية: يا راجل دي قضيتي، رايح تنشر مقال ضد الصهيونية عند بتوع التطبيع؟ ابعت المقال. وأرسلت المقال، ولم يعتذر رئيس التحرير، ولم ينشر المقال، ولم أعاتبه أساسا؛ لأنني كنت أعرف أنه لا يجرؤ على نشر هذا المقال بالتحديد. وتكرر المنع، وتغيرت الأعذار، وكنت قبل كتابة المقال، قد اتصلت بعادل حمودة (رئيس تحرير صوت الأمة حينذاك)، وسألته عن المصادر التي اعتمد عليها في نشر معلومات تضمنها مقاله الأخير عن ظروف نشأة محكمة نورمبرج في باريس، وكانت معلومات غريبة وبعيدة تماما عن قضية الضابط دريفوس، التي قسمت المجتمع الفرنسي، ونشأ على أساسها مفهوم المثقف المعاصر في أوروبا بعد الحملة التي شنها الكاتب الكبير إميل زولا بعنوان "إني اتهم". وكان واضحا أن حمودة اعتمد على مترجمة (ميديوكريت شابة)، أعدت له المعلومات الأجنبية في القضية، فاستخدمها في غير سياقها، وخلط بين وقائع تاريخية بعيدة عن بعضها. ولم أكن أريد الإحراج، كنت أبحث عن التوثيق، ربما أنا المخطئ.. وقال حمودة إنه سيتحقق من المصادر ويبلغني، ولم يتصل حمودة، فاتصلت به في اليوم التالي، وبعد تحية مقتضبة قال بأدب: عندك حق، المعلومات غير دقيقة، وهذا خطأ، احترمت رده، وتمنيت عليه أن يصحح الخطأ في برواز صغير ضمن مقاله في العدد المقبل.

(6)
وعدني حمودة بالتصحيح، ولم يفعل. وبناء عليه، قررت أن أكتب مقالي، حتى لا يتسبب الخطأ المنشور في تضليل القراء كما حدث معي، وأثناء البحث وتدقيق مصادر المقال، فوجئت أن حمودة نفسه (وليست المترجمة هذه المرة)، اعتمد في مقاله على نص قديم ومنشور منذ سنوات، كتبه وزير الدفاع السوري حينذاك مصطفى طلاس، بعنوان "فطيرة الدم"، ويتناول طقوس يهودية في دمشق استنادا على خرافات متوارثة. وكالعادة، نقل حمودة بسرعة واستسهال، دون أن يفهم ويحيط بالقضية التي يكتب فيها، فخلط بين دفاعه عن أطفال فلسطين في انتفاضة الحجارة، وبين شعائر فطيرة صهيون المختلف عليها تاريخيا ودينيا. هذه الملابسات، دفعتني للتفكير برومانسية في أزمة المقال الممنوع، فاتصلت بحمودة وقلت له بكل بساطة: أنا كتبت مقالا نقديا عنك وعن أزمة فطيرة الدم، ولا أحد يريد نشره، فهل تضرب مثلا على نزاهة الصحفي، وتنشره أنت في الصحيفة التي ترأس تحريرها؟ فقال: أرسله، فإذا كان موضوعيا سأنشره. أرسلت المقال ورفض حمودة نشره، وحينها قال لي زميل مثقف كان يشغل موقعا قياديا في الصحيفة (هو الذي تلقى الفاكس بناء على اتصال مسبق بيننا): لو كان مقالك هجوميا، ومليئا بالمغالطات، والتجريح الشخصي، كان حمودة نشره، لكنه لا يجرؤ على نشر هذا المقال.

لماذا؟

وكانت الإجابة واضحة: خشية من نفوذ وعلاقات إبراهيم نافع، وحرصا على مصالح حمودة معه.

(7)
إنجازات نافع و"عصابة الميديوكريت" متشابهة.. إنجازات عظيمة وضخمة يتم الحديث عنها بمبالغات، وربطها بشبكة مصالح في كل مجال، لكنها تبقى مشروعات كبيرة فاشلة، تسعى لتمكين السلطة وضمان استمرارها، من دون أي تطوير أو تغيير، مع توسيع شبكة المصالح لإرضاء فئات قليلة؛ لضمان عدم تزايد الغضب، والأهم لضمان التمكين، وضمان البقاء. هكذا كان نافع، ولهذا يساعد الكثيرون في غسل تاريخه، كما يفعل مبارك بنفسه الآن، حيث يبدو لدى كثير من الفئات أنه الزعيم الحر الوطني الذي رفض التفريط في أرض سيناء، وتوطين الفلسطينيين فيها، كما كان يهدد إثيوبيا بضرب سد النهضة لو فكروا في بنائه، وكأن "الميديوكريت" لم يكونوا هم سبب كل ما نحن فيه من انحطاط وفساد وأشلاء!

[email protected]

 

التعليقات (0)

خبر عاجل