كتاب عربي 21

أخلاق العبيد (1)

طارق أوشن
1300x600
1300x600

 يدخل أحمد حبيب أبو المحاسن، المفرج عنه من السجن حديثا، إلى قسم الشرطة المسؤول عن متابعته بعد الإفراج.


الشاويش:يا أخينا.. رايح فين؟
أبو المحاسن: عند الباشا رئيس المباحث.
الشاويش: عاوز الباشا في ايه؟
أبو المحاسن: هو ايلي قال لي أفوت عليه.


الشاويش: انتم صحاب؟
أبو المحاسن: لأ.. من غير مؤاخذة.. مراقبة..
الشاويش: مراقبة؟ مش تقول كده من الأول.. قدامي.. قدامي.
يقفان أمام الضابط وبعد السؤال عن أحواله بعد الخروج من السجن وتنبيهه بعدم التسبب في أية مشاكل، يوجه كلامه للشاويش.


ضابط المباحث: خذه! خليه ينظف دورة الميه.
الشاويش: تحت أمرك يا افندم..
أبو المحاسن، وبعد خروجه من السجن، فيلم (سوق المتعة – 2000) للمخرج سمير سيف، صار من الأغنياء. لكنه لم يستطع التخلص من الشخصية الطيعة التي صاحبته طوال السنوات السبع التي قضاها في السجن في التمسح للسجانين والسجناء على حد سواء.

 

وكم كان حماسه كبيرا وسعادته غامرة حين أوصله الشاويش إلى الحمامات المتسخة لتنظيفها.
الشاويش: اتفضل يا سيدي! بقولك ايه؟ اوعى تنظفها كويس ليجيبك كل يوم.
أبو المحاسن (بحماس): فين عدة الشغل؟ أنا عاوز فراشة بلاط ومن غير مؤاخذة لو فيه صابونة يبقى فضل ونعمة.
الشاويش: صابونة؟


بعد الانتهاء من التنظيف يجلس أبو المحاسن متكأ على الحائط.
الشاويش: ايه النظافة ده كلها يا عم؟ فيه ناس متحبش تسمع النصيحة
أبو المحاسن: يعني.. هي نظيفة كده لا مؤاخذة؟
الشاويش: وهي جديدة مكنتش بالنظافة ده..
أبو المحاسن: أصلها مش عجباني.


الشاويش: انت ايلي مش عاجبني.. فيه حاجة في دماغك؟ فهّمني..
بعد سبع عشرة سنة من إنتاج فيلم (سوق المتعة)، وفي قسم التجمع الثالث بالقاهرة، طلب ضابط من مؤسس حركة 6 أبريل، أحمد ماهر، الذي يخضع للمراقبة مدة ثلاث سنوات بعد أن  قضى مثلها سجينا، أن يمسح بلاط القسم فرفض الامتثال. النتيجة كانت سحب متعلقاته الشخصية وحبسه في إحدى الزنزانات.


لم تكن السنوات السبع عشرة كافية لتغيير عقليات المؤسسة الأمنية، ولا حراك 25 يناير وما تلاه كفيلا بتحسين ظروف اعتقال السجناء من المجرمين والنشطاء السياسيين. والسبب شخصيات من طينة أبو المحاسن تجد متعتها الشخصية في التطوع لامتهان كرامتها وإهدار حقوقها الإنسانية مقابل نظرة رضا، مجرد نظرة رضا، من مسؤول، أي مسؤول كان. من أخلاق العبيد أن تؤمر فتأتمر ولو كان الآمر مجرد عبد لمال أو جاه أو سلطة أو جهات أجنبية.


تهمة أحمد ماهر كانت التظاهر بلا ترخيص.
في افتتاحية  فيلم (الأصليين – 2017) للمخرج مروان حامد، نسمع صوتا نعرف فيما بعد أنه لرشدي أباظة، الذي يقدم نفسه في الفيلم كممثل للأصليين دون أن نعرف من يكون بالضبط.


صوت رشدي: الدواجن كلمة مقصود بيها فرخة المزرعة.. حواليها سور بيحميها.. تاكل في مواعيد منتظمة.. تطّعم في مواعيد منتظمة.. تؤدي دورها في الحياة بمواعيد منتظمة.. مش بس الفرخة ايلي بيطلق عليها دواجن.. كل كائن حي تم استئناسه حتى لو كان بني آدم بيتسمى داجن..


وفي نهاية الفيلم يكمل رشدي كلامه..
صوت رشدي: والدواجن في مرحلة من عمرها بتنصاب بداء بيجيها مرة واحدة في العمر.. داء بتفتكر فيه للحظة أنها حتنجح في الهروب من المزرعة.. المزرعة ايلي أصلا ملهاش سور..


التدجين في الدول الاستبدادية تربية وتأصيل من المهد إلى اللحد. يتلقى الفرد تعاليمها وأساسياتها في البيت والمدرسة والشارع ومكان العمل وغيرها، في ممارسة تتوارثها الأجيال جيلا عن جيل وينتقل فيها الولاء الأعمى المبني على الخوف المعشش في العقول من المستويات الأدنى إلى أعلاها.

 

دول الاستعباد العربية شعارها التهليل للحاكم من منطلقات التخويف من واقع المحيط القريب والبعيد، ومن "دروس" التاريخ المجتزأة وتبريرات وعاظ السلاطين الشرعية التي تلوي أعناق الآيات والأحاديث وتوجهها حسب ما تشتهي سفن الحكام. الفرد العربي المستعبَد مجرد بيدق في مجاميع تهلل للحاكم وتسبح بحمده آناء الليل والنهار وتحركها الأجهزة كيفما ومتى تشاء، وبوق للدعاية والتهليل في جوقة المطبلين.

 

وعندما تسول له نفسه الأمارة بالسوء الثورة على النظام يواجه من أقرانه التخوين أو الإقصاء أو الاتهام بالسعي لزعزعة الاستقرار. الكلمة السر في الموضوع: صناعة الخوف وتكريس الخرافة بقدرات الحاكم الخارقة التي تجعله المخلص القادر وحده على السير بالبلاد والعباد إلى بر الأمان.


للأنظمة الاستبدادية أساليبها في استعباد الأحرار ولا يعدمون في سبيل ذلك طريقا إلا سلكوه.


في فيلم (الأصليين)، وفي الوقت الذي يسلم فيه رشدي أباظة عقد العمل لسمير محمود عليوة يأتيه اتصال نعرف من رده أنه من سلطة أعلى. بعد انتهائه من المكالمة المهمة، يتوجه بالكلام إلى سمير..
رشدي: آآآه.. احنا في مرحلة صعبة يا سمير.. مفيش وقت للتردد.. قَطْر الوطن مبيستناش.. (تعجبه العبارة الأخيرة فيتصل عبر الهاتف) يا هيمة.. صباح السعادة يا حبيبي.. بص بقا الأغنية ايلي جاية حيبقى مطلعها ايه؟ لو مين نَدَه حنقول له بلاش.. قَطْر الوطن مبيستناش.. حلوة؟ حقيقي؟ تمام.. اسمعها النهارده بالليل ان شاء الله..عايزها مليانة بهجة وحماس.. ايه رأيك؟
سمير: عجبتني جدا.. عجبتني جدا الكلمات..


لا صوت يعلو فوق صوت السلطة وحوارييها وأدواتها. ولا أداة تتحرك إلا بتعليمات وتوجيهات. في الأزمة الخليجية رأينا كيف صارت الأغاني تكتب في الدواوين الملكية وتلقن للمطربين قبل أن تخرج هجينة للسامعين. لا يهم الكلام ولا اللحن فالشعوب لا تملك غير إبداء الإعجاب بالكلمات  والتمايل على أنغام الألحان وإلا فتهمة التعاطف مع "العدو" جاهزة كما اللوائح السوداء للإرهابيين.


أظهرت التجارب القديمة منها والمعاصرة أن المزرعة فعلا بلا سور أينما تكون. وما يحول بين المرء وحريته مجرد أسوار وهمية بنيت في لا وعي المواطن تقف بينه وبين المواطنة الكاملة التي عاش الأحرارولا يزالون تحت كنفها كما تخبرنا دروس التاريخ. لكن من هذا الذي يعي أن المزرعة ليس لها في الأصل سور.


في فيلم (12 سنة من العبودية – 2013) للمخرج ستيف ماكوين، وفي الباخرة حيث يتم تجميع "العبيد"، وبينهم سولمان نورثوب، لنقلهم من الشمال الأمريكي إلى الولايات الجنوبية حيث لا تزال العبودية مشروعة، يدور الحوار التالي بين المخطوفين.


رجل 1: أرى أن نقاتل..
سولمان: الطاقم عدده قليل نسبيا. لكنهم قد يكونون مسلحين؟
رجل 2: ثلاثة لا يمكنهم الصمود أمام طاقم بأكمله. البقية هنا زنوج ولدوا وتربوا عبيد. العبيد لا يملكون الجرأة للقتال.
هنا بالضبط مكمن المشكلة والحل..
 

0
التعليقات (0)