كتاب عربي 21

القدس.. ومفهوم الأساس في العلاقات الدولية

شريف أيمن
1300x600
1300x600

"يتعهد أعضاء الأمم المتحدة بقبول قرارات مجلس الأمن وتنفيذها وفق هذا الميثاق".

هذا ما نَصّ عليه ميثاق الأمم المتحدة في مادته الخامسة والعشرين من الفصل الخامس المتعلق بمجلس الأمن، لكن النصوص القانونية تختلف عن الممارسات في الواقع، لذا ظهر ما يسمى بالمنهج الواقعي في دراسة علم العلاقات الدولية، وهو المنهج الذي اعتنى بمفهوم "القوة" كمفهوم أساس للعلاقات الدولية.

(1)

يمكن تبسيط المقصود بمفهوم الأساس لأي علم من العلوم؛ بأنه "محور الاهتمام الذي تدور حوله دراسة هذا العلم". فيمكن القول بأن "السلوك" هو محور اهتمام علم النفس، ومفهوم "القوة" هو محور اهتمام علم السياسة، وأخذ علم العلاقات الدولية الناشئ هذا المفهوم ليعبّر به عن مفهوم الأساس فيه. وعلم السياسة يبحث في تمايز المجتمعات بين "آمِر ومُطيع"، ومن ثَم انقسام المجتمع لحاكم يحتكر أدوات الإكراه المادي، ومحكوم يمتثل لإرادة حاكمه. فهذه الصورة في التمايز جعلت القوة هي مفهوم الأساس في علم السياسة، ولا خلاف يمكن رصده في خضوع الدول الضعيفة للدول الأقوى فيما يُشبه صورة التمايز السياسي في المجتمع الواحد بين الأفراد. ومن هنا تم نحت مفهوم الأساس في العلاقات الدولية ليصير القوة. وإذا كانت القوة في الفيزياء تعني تأثير قوة جسم في جسم آخر، فالقوة هنا تعني تأثير إرادة في إرادة أخرى.

المثال التوضيحي لذلك السرد الذي قد يملّه البعض؛ هو ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، سواء إذا نظرت للاحتلال من المنظور الدولي الذي قسّم الأرض الفلسطينية مع اليهود بالقرار رقم 181 في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، أو إذا نظرت للاحتلال من المنظور العربي الذي يرى الأرض كلها ملكا لساكنيها قبل قرارات التقسيم ووعد بلفور المشؤوم، ويعتبرون أن الوجود الإسرائيلي طارئ عليها.

(2)

"إن مجلس الأمن إذ يذكّر بقراره 476 (1980) المؤرخ في 30 حزيران/ يونيو 1980، وإذ يؤكد مجدداً أنه لا يجوز الاستيلاء على الأرض بالقوة، وإذ يساوره القلق العميق بشأن المصادقة على "القانون الأساسي" في الكنيست الإسرائيلي الذي يعلن إجراء تغيير في معالم مدينة القدس الشريف ووضعها، مع ما لذلك من مضاعفات على السلام والأمن، وإذ يشير إلى أن إسرائيل لم تتقيد بقرار مجلس الأمن 476 (1980)، وإذ يؤكد مجدداً تصميمه على دراسة السبل والوسائل العملية وفقاً للأحكام ذات العلاقة الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، لضمان التنفيذ الكامل لقراره 476 (1980)، في حال عدم امتثال إسرائيل:

1ـ يلوم أشد اللوم مصادقة إسرائيل على "القانون الأساسي" بشأن القدس، ورفضها التقيد بقرارات مجلس الأمن ذات العلاقة.

2ـ يؤكد أن مصادقة إسرائيل على "القانون الأساسي" تشكل انتهاكاً للقانون الدولي، ولا تؤثر في استمرار انطباق اتفاقية جنيف الرابعة الموقعة في 12 آب/ أغسطس 1949، والمتعلقة بحماية المدنيين وقت الحرب على الأراضي الفلسطينية وغيرها من الأراضي العربية التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، بما في ذلك القدس.

3ـ يقرر أن جميع الإجراءات والأعمال التشريعية والإدارية التي اتخذتها إسرائيل، بالقوة المحتلة، التي غيرت معالم مدينة القدس الشريف ووضعها واستهدفت تغييرها، خصوصاً "القانون الأساسي" الأخير بشأن القدس، هي إجراءات باطلة أصلاً ويجب إلغاؤها.

4ـ يؤكد أيضاً أن هذا العمل يشكل عقبة جدية أمام تحقيق سلام شامل وعادل ودائم في الشرق الأوسط.

5ـ يقرر عدم الاعتراف بـ"القانون الأساسي" وغيره من أعمال إسرائيل التي تستهدف نتيجة لهذا القرار تغيير معالم القدس ووضعها، ويدعو جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إلى:

أ) قبول هذا القرار.

ب) دعوة الدول التي أقامت بعثات دبلوماسية في القدس إلى سحب هذه البعثات من المدينة المقدسة.

6ـ يطلب إلى الأمين العام تقديم تقرير إلى مجلس الأمن عن تنفيذ هذا القرار قبل 15تشرين الثاني/ نوفمبر 1980.

7 ـ يقرر متابعة هذا الوضع الخطر".

ما سبق هو نص القرار رقم (478) لسنة 1980، الذي أصدره مجلس الأمن في 20آب/ أغسطس 1980، ردا على قانون إسرائيلي يقضي بأن القدس عاصمة دولة الاحتلال؛ صدر في 30 تموز/ يوليو من نفس العام. وكان من نتيجة هذا القرار أن سحبت الدول الأجنبية سفاراتها من القدس، ولا زالت العادة تجري بتجنب مجرد اللقاءات الرسمية في القدس وحصرها في عاصمة دولة الاحتلال، والمخالفة لهذه القاعدة العرفية قام به وزير الخارجية المصري منذ عام تقريبا.

(3)

إذن، ميثاق الأمم المتحدة يدعو لتنفيذ قرارات مجلس الأمن كما نصّت المادة 25، وينص أيضا في البند الأول من المادة 48 على أن "الأعمال اللازمة لتنفيذ قرارات مجلس الأمن لحفظ السلم والأمن الدولي يقوم بها جميع أعضاء الأمم المتحدة أو بعض هؤلاء الأعضاء، وذلك حسبما يقرره المجلس".. وما قرره المجلس ودعا إليه الدول التي أقامت بعثات دبلوماسية في القدس؛ هو سحب هذه البعثات منذ ما يقرب من 40 عاما، لكن الرئيس الأمريكي الحالي يريد إشعال المنطقة باحتقاره وازدرائه الدائميْن لمشاعر مسلمي المنطقة، وإعلانه عن نيته لنقل السفارة الأمريكية للقدس؛ دون أي اعتبار لمخالفة القرارات الدولية، ودون اعتبار لما يمثّله ذلك من "تهديد للسلام والأمن الدوليين"، وحفظهما من التهديد هو الغرض الذي قامت من أجله "الأمم المتحدة"، مما يؤكد أن القوة فوق المساءلة والمحاسبة، إذ لو قامت دولة ما بمخالفة رغبات القوى الكبرى، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، لَصَدَرَ قرار عاجل بمعاقبة تلك الدولة بوصفها مخالفة لميثاق الأمم المتحدة، أو باعتبارها مهدِّدة للأمن والسلم الدوليين، لكن تلك الاعتبارات وفقا لمفهوم "القوة" تنطبق على الضعفاء فقط.

تقوم الولايات المتحدة بدعم دولة الاحتلال الإسرائيلي دعما غير محدود، إما بإيقاف القرارات الدولية ضدها أو بتبرير ممارساتها أو مهاجمة من تم الاعتداء عليهم من قِبل قوات الاحتلال العسكرية أو غير العسكرية، لكن الجديد هذه المرة في الإعلان المباشر للرئيس الأمريكي بنيته مخالفة القرارات الدولية وإشعال المنطقة بالمساس بالدولة الفلسطينية وعاصمتها بالقدس الشرقية وفقا للقرار 181 السابق ذكره، مما يطرح السؤال حول جدوى القرارات الدولية والمنظمات الدولية بالنسبة للدول الضعيفة، وإذا كان الأجدى لها أن تنسحب من ذلك الكيان القائم على تجميل صورة القوى العظمى وإعطائها المبرر لتتحكم في مجريات أمور الدنيا كلها.

 

 

مفهوما جدوى الاستمرار في تلك المنظمات، وليس مفهوما سبب التمسك بهيئة قامت على أنقاض حرب أتت على أرواح الملايين من البشر

 

 


(4)

إذا كان مفهوما أن دولة الاحتلال ترعى مصالحها وتزيد من توسعاتها الاستيطانية في الأراضي المحتلة "من وجهة نظر القانون الدولي"، وإذا كان مفهوما كذلك الدعم اللامحدود من الإدارات الأمريكية المتتالية، فليس مفهوما جدوى الاستمرار في تلك المنظمات، وليس مفهوما سبب التمسك بهيئة قامت على أنقاض حرب أتت على أرواح الملايين من البشر، وصاغ نظامها الأساسي الطرف الأكثر وحشية وإجراما، ولا أدل على ذلك من إلقاء القنابل الذرية، والتسابق المحموم نحو اقتناء الأسلحة المدمّرة واحتكار تقنيتها.

إن حالة الوهن العربي هي ما أوصلتنا لتلك اللحظة المزرية، وصورة الوهن في حكام يتسابقون نحو إرضاء القوة العظمى الوحيدة؛ دون رعاية أحوال المجتمعات والشعوب، ولا رقابة حقوق الأجيال المقبلة في أوطانهم ومقدّراتهم، وتتجلى في الممارسات الخليجية والمصرية نحو القضايا الهامة بالمنطقة، بدءا من قضية القضايا وهي الحريات، ومرورا بالقضية الأساس، وهي الحق في التحرر من الاحتلال الأجنبي، وانتهاء بممارسات إفقار الشعوب في مقابل دفع مبالغ الاسترضاء الباهظة للأمريكان.

 

تلك الممارسات أوصلتنا لتلك النتيجة التي استطلعتها وزارة الخارجية لدولة الاحتلال في 54 دولة حول العالم


سيكون مهما أن ندرك أن تلك الممارسات أوصلتنا لتلك النتيجة التي استطلعتها وزارة الخارجية لدولة الاحتلال في 54 دولة حول العالم، ونقلها موقع "المصدر"، إذ شمل الاستطلاع 12 دولة في الشرق الأوسط، رغم أنه ليست هناك لدى بعضها علاقات مع دولتهم. ومن بين هذه الدول، يعتقد 47 في المئة من الجمهور أن بلادهم يمكن أن تجني فائدة من علاقتها مع "إسرائيل". وفي البلدان التي ليست لها علاقات رسمية معها، كان تأييد إقامة علاقات يصل إلى ما بين 40 و50 في المئة، وهذه النتائج كانت تتويجا لجهود سنوات من الانبطاح العربي، وامتلاء مواضع المناصب العربية بالمهزومين أخلاقيا وثقافيا؛ الذين لا يمانعون من دعم الشيطان نفسه في مقابل احتفاظهم بمناصبهم وأموالهم.

ما نعلمه ونوقنه أن تلك المسارات ستزول، فما من شعب استكان لمحتل، بل وما من إقليم رغب في الانفصال استكان للاندماج مع جيرانه، فكيف بالجسم الذي تم زرعه وهو خبيث يلفظه الجسد؟

ما نعلمه ونوقنه كذلك؛ أن ما صاغه نزار قباني ولحّنه عبد الوهاب وشدت به أم كلثوم أن "إلى فلسطين طريق واحد.. يمر من فوهة بندقية".

التعليقات (0)