مقالات مختارة

العرب في أمَس الحاجة إلى ثورة حضارية

أحمد القديدي
1300x600
1300x600

عرضت في الجزء الأول من المقال، ضرورة اتباع منهج الحداثة الأصيلة عوض الحداثة الدخيلة؛ لأنه لا نهضة للعرب من دون الانغراس في المخزون الحضاري، الذي يشكل هويتهم من لغة عربية حية وقادرة وقيم إسلامية وسطية متسامحة متفاعلة مع العصر، وتراكم الثقافات الأخرى التي كونت جيناتهم الحضارية منذ العهود الأمازيغية في شمال إفريقيا والعهود الكنعانية في المشرق والشام والعهود الفرعونية في مصر ودلتا النيل.


كل هذا الثراء الحضاري هو الأساس لانطلاق قفزة نوعية تلحقنا بالنمور تبدأ بسن مشروع تربوي وسياسي واقتصادي وقانوني، نبتكره نحن ونخط به خارطة طريق التقدم، عوض تبني مشروع مستورد من الغرب المسيحي نعتقد أنه الأنسب لنتقدم! 


ولا تظنن يا قارئي العزيز أن هذا الخندق العميق الذي فصل تونس عن توأمتيها ماليزيا وكوريا الجنوبية مثلا جاء بسبب طبيعة قاسية هنا وملائمة هناك، أو أن لعنة أصابت التوانسة فتأخروا وأن نعمة حلت بالماليزيين والكوريين فتقدموا، أو أن زلازلا أو سنوات عجافا ضربت تونس فدحرجتها إلى الوراء، بينما منّ الله على الدولتين الآسيويتين بمائدة نزلت من السماء!


لا وألف لا، لأن الفقر سياسي وحضاري وثقافي في تونس، وإن النعمة سياسية وحضارية وثقافية في ماليزيا وكوريا بل في تركيا وسنغافورة وحتى إثيوبيا وكينيا، فكما كان يقول أستاذنا (ألفريد سوفيه) عالم الاقتصاد والاجتماع ومبتكر عبارة العالم الثالث في محاضراته بباريس حين كنا طلابا، (إن التخلف ليس ظاهرة اقتصادية أو سياسية بل هو ظاهرة ثقافية وكذلك التقدم).


وبالفكرة نفسها آمن المفكر الجزائري الفاضل مالك بن نبي ونحن نحيي ذكرى ميلاده المئوية هذه الأيام، ومن هنا أتطرق لضرورة الثورة الحضارية العربية انطلاقا من النموذج التونسي لعلي أثير في نفوس الشباب العربي الرغبة في تغيير منكر التخلف بتغيير ما بأنفسنا، لندشن عهدا جديدا من التقدم الاقتصادي والسلام المدني والتعايش بين المختلفين. 


والفتنة الكبرى الثانية لدى العرب هي التي نعيش نتائجها المأساوية هذه السنوات ونأكل ثمارها المرة، وقد كان سببها الأصلي سوء تقدير جيل الاستقلال في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، حين لم يدرك البعد الثقافي للتخلف، واعتقدت نخب الخمسينيات (في مصر وتونس والجزائر والمغرب والشام والعراق)، أن تحرير أوطانها من الاستعمار الغربي عسكريا وإداريا سيكون كافيا لتنهض شعوبهم وتتقدم ،ولم يدركوا أن الاستعمار نفسه ظل معششا في عقولهم ومستعمرا وجدانهم، فانساقت أغلب النخب الوطنية وراء النموذج المجتمعي والثقافي والاقتصادي وحتى اللغوي،

 

وكذلك في الملبس والمأكل والسلوك ظنا من تلك النخب أن ما يسميه الزعيم بورقيبة على سبيل المثال (اللحاق بركب الحضارة)، هو أن تحذو الأمة المستقلة حذو الامبراطورية التي كانت تستعمرها فحدث مسخ تدريجي للشعوب؛ لأن زعماءها ألبسوها ثوبا ليس من صنعها ولا من تراثها ولا من قياسها دينا ولغة وتقاليد، ولا فائدة من تعداد الأمثلة فهي تقريبا متشابهة في كل المجتمعات العربية.


ولنأخذ المثل التونسي لندرك أن بورقيبة كان عن حسن نية، يعتقد أننا سنلتحق بفرنسا (مثله الأعلى المعلن أو المستتر)، أي في الحقيقة مثله الأعلى في مركزية الدولة وانضباط المواطن وقوة الصناعة لا في نجاعة المؤسسات الدستورية، ولا في حماية الحريات، ولا في صون الحقوق فجلب بورقيبة قوانين فرنسية لتنظيم المجتمع منها مجلة الأحوال الشخصية، التي أدخلت المرأة في الدورة الاجتماعية وزودتها بالتعليم، لكنها فجرت الأسرة التي كانت تعتمد على فضيلة الدين والأخلاق.


"من ذلك ما نبه إليه وزير الصحة محمد صالح بن عمار من الإفراط في اللجوء للإجهاض، ومن ذلك أن في بلادنا أكبر عدد من كتائب الشباب لتزويد داعش، ومن ذلك أعلى معدلات الطلاق الذي أصبح شبه مستحيل بسبب قلة عدد القضاة والمحاكم والقوانين المطاطة، ومن ذلك أعلى نسب الأمراض النفسية والانهيارات العصبية حسب الجمعية التونسية للأمراض النفسية، ومن ذلك أعلى نسب الأمهات العازبات وانتشار ظاهرة الزواج العرفي وتفاقم المأسي العائلية الغريبة، التي تظهر منها بعض الحالات في البرامج التلفزيونية الاجتماعية".


إننا نحتاج إلى ثورة حضارية تعيدنا لهويتنا المسلوبة وتبتكر منهجا أصيلا عوض المنهج الدخيل (كما فعلت ماليزيا وتركيا المسلمتان).. لكن النخب في تونس والعالم العربي ما تزال تورطنا في صناعة الفتنة بممارسة النفاق السياسي؛ لإرضاء سادتها الغربيين ونيل شهادات استحسانهم.

الشرق القطرية

0
التعليقات (0)

خبر عاجل