كتاب عربي 21

السبسي يحرف النظام الديمقراطي الى منظومة "تسلطية انتخابية"

طارق الكحلاوي
1300x600
1300x600
تقوم منظومة الحكم بقيادة السبسي بتهرئة تدريجية للمنظومة الديمقراطية التي تم تأسيسها ونحن ازاء مسار غايته افراغها من محتواها. وعوض سيناريو الانقلاب الدموي المصري يقود السبسي تونس نحو انقلاب ناعم وفي احيان كثيرة بدعم او تخاذل من قوى تضرر بعضها من استبداد بن علي، ويلعب على تناقضاتها واثارة النعرات الايديولوجية بينها بمنهجية "فرق تسد".  واذ نحيي هذه الايام ذكرى اضراب جوع 18 اكتوبر 2004 التي مثلت نقطة فارقة في تعالي المعارضة التونسية ايام الاستبداد على الانقسامات الايديلوجية، نعود الان الى ذات المربع الاول من الانقسامات والتنافس في التقرب من منظومة الحكم القديمة والذي سمح بتمكين منظومة الاستبداد. فاين يتجه النظام السياسي في تونس تحت حكم السبسي؟

المؤشرات على اننا نتجه الى افراغ المنظومة الديمقراطية من هويتها عديدة وتركز في هذه المرحلة في نقطتين، الاولى اضعاف وتعطيل اي مؤسسات رقابية مثل تعطيل واضعاف الهيئات الدستورية واي توازن داخل السلطة التنفيذية واستفراد مؤسسة واحدة بالسلطة الفعلية مثلما يراد من خلال النية المعلنة للسبسي وداعميه لتحوير الدستور وتركيز السلطة في الرئاسة وتهميش البرلمان، والثانية الاتجاه نحو ربط استقرار الدولة بتمكين الحكم العائلي تشكل منظومة زبونية تحوم حول عائلة الرئيس، ممثلة في ابنه ولكن ايضا اقاربه من مدير ديوانه الى رئيس الحكومة. وهذا يدفع النظام السياسي نحو هوية تسلطية، ولكن لا يعني عدم تعايشها مع الانتخابات كصيغة تقنية تسمح بتنافس حر لكن ليس بانتخابات نزيهة بما يمنع تداول فعلي على السلطة. هذه الصيغة المفارقة ليست ابداعا تونسيا. وكنت عرضت ملامحها في سلسلة مقالات قبل الثورة، وسماها منظرون في العلوم السياسية بـ"التسلطية التنافسية" أو "التسلطية الانتخابية". 

في سلسلة مقالات سابقة سنة 2009 كتبت عن معضلة التحول الديمقراطي في تونس وعن افاقه القصوى في سياق استبدادي ولخصت في هذا السياق نظرية "التسلطية الانتخابية". ومثلما اشرت سابقا يبقى أن كل هذه المفاهيم في حاجة إلى تدقيق. إذ تحديد ما هو غير ديمقراطي يمكن أن يحتوي على مغالطات في تعريف الديمقراطية ذاتها، وهو الأمر الذي لا يزال يخضع لجدال واسع، ليس في أوساط "أصولية" ترفض مشروعية الديمقراطية، بل قبل ذلك في الأوساط الغربية ذاتها. 

هناك مثلا البعض، مثل الباحث التشيكي في النصف الأول من القرن الماضي جوزيف شومبيتير، ممن يقيس الديمقراطية عبر المقياس التبسيطي المتمثل في أنها النظام السياسي الذي يتم ملء مواقع السلطة فيه "عبر صراع تنافسي من أجل أصوات الناس" أي آلية الانتخابات. غير أن مقياسا من هذا النوع من الممكن أن يفشل في رصد سياق "المنافسة الانتخابية" الذي يمنع تحديدا المنافسة. ثم إن تعريف الديمقراطية، ومن ثم نواقضها، يمكن أن يأخذ منحى أكثر تعقيدا. فقد اقترح روبرت داهل (Robert Dahl) أحد أكثر علماء السياسة تأثيرا وإثارة للجدل في ذات الوقت مراجعة لمفهوم الديمقراطية كما هي ممارسة في سياق الأنظمة التي نطلق عليها "ديمقراطية". في كتابين مرجعيين بداية السبعينيات ثم نهاية الثمانينيات بالقياس إلى 5 معايير وضعها داهل تتركز على "المساواة" بين الناخبين، من حيث قدرتهم الواقعية على الوصول إلى المعلومات والمشاركة والترشح والتمويل في العملية السياسية، دعا إلى تجنب مصطلح "الديمقراطية". 

في المقابل اقترح داهل منظومة مفاهيمية بديلة تتركز في مصطلح "التعددية" (polyarchy). هنا نحن إزاء "تعددية" ليس في الحياة السياسية بشكل عام فحسب بل في ممارسة السلطة بالتحديد، وخاصة على مستوى التداول على السلطة. إذ بخلاف الثنائية المطلقة لـ "الديمقراطية" و "الشمولية"، هناك ثنائيات أخرى تبدو أقل حدة مثل "الديمقراطية" و "التسلطية" (authoritarianism) -أي النظام السياسي الذي يمكن أن يقر قانونا بـ "التعددية" بعكس النظام "الشمولي" غير أنه ينقضها بشكل متفاوت في الممارسة، يمكن أن تخفي تباينات كبيرة إذا ما توقفنا عند التحليلات العامة.وقد برهن بعض الباحثين في العشرية الأخيرة خاصة لاري دايموند (Larry Diamond)، المشرف على "مجلة الديمقراطية" (Journal of Democracy)، من خلال مقال في النشرية الأخيرة سنة 2002 على رجاحة الموقف الذي يجعل التمييز بين إقامة الانتخابات من جهة وقدرة الانتخابات من جهة أخرى على ضمان تداول على السلطة ليس كمقياس أساسي في تمييز الأنظمة "التعددية" فحسب بل أيضا في مقاربة أغلب أوضاع الأنظمة السياسية العربية من بين أنظمة أخرى بشكل يمكن من حصر طبيعتها الرئيسة. ليصل في النهاية إلى تصنيف "الأنظمة الهجينة" (hybrid regimes) أو ذات الصفات المختلطة وغير المتجانسة والذي يتيح مقاربة نظرية أكثر اتصالا بالواقع.

"الأنظمة الهجينة" بالنسبة لدياموند هي تلك الأنظمة التي تتوفر رسميا على نظام سياسي يتيح التعددية السياسية وعلى انتخابات دورية لكنها عمليا غير "تعددية" أو غير "ديمقراطية" بما أنها تكرس سلطة الحزب الواحد. وبهذا المعنى فبعكس "التعددية الانتخابية" أو "الديمقراطية الانتخابية" (electoral democracy) يقع توصيف هذه الأنظمة بأنها "تسلطية انتخابية" (electoral autocracies). وضمن هذا السياق يمكن أن نجد أحيانا منافسة انتخابية جدية، علنية أو غير علنية، لكن فقط في إطار الحزب المهيمن على السلطة وفقط ضمن حدود إعادة إنتاج وضع سلطة الحزب الواحد. وهو الخطر الداهم الذي نواجهه الان في تونس. 
التعليقات (0)