كتاب عربي 21

ماذا بقي من أوراق في الأزمة العربية؟

شريف أيمن
1300x600
1300x600
مرّت ثلاثة أشهر تقريبا منذ بدء أزمة قطع العلاقات مع قطر التي قادتها دول الخليج وتبعتها دول أخرى تم ترغيبها أو تهديدها بالمال أو تأشيرات تأدية الشعائر المقدسة، والملفت أن الدول المقاطِعة ليس فيها من ينبّه جماعات الحكم إلى دلالة التاريخ، الذي وافق يوم أكبر الهزائم العربية واحتلال دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 لمساحات شاسعة في وقت قصير، ما يطرح التساؤل عما إذا كان الموعد مقصودا أم لا؟ فضلا عن وجود من ينبههم إلى خطأ ذلك التوجه بالأساس.

(1)

إن ما جرى في الخامس من يونيو/حزيران الماضي لم يكن وليد اللحظة بل سبقته مقدمات وأيضا له جذور، فالدول الخليجية الثلاث سبق لها أن قامت بسحب سفرائها من الدوحة في مارس/آذار 2014، على خلفية تباين المواقف من الانقلاب العسكري في مصر، ولم تقم مصر حينها بنفس الإجراء، وفي 24 أبريل/نيسان الماضي قامت حملة إعلامية إماراتية - سعودية على خلفية تصريحات منسوبة لأمير قطر، ولم تلتفت وسائل إعلام البلدين للنفي القطري الرسمي، أما جذور الخلافات بين دول الخليج وقطر، فقد أوضحته تصريحات أحد المسؤولين السعوديين في خبر قطع العلاقات الذي ذكر أن جذور الخلافات تمتد إلى عام 1995، ويعني بذلك الانقلاب الأبيض للأمير حمد بن خليفة على والده، وقد قام والده بالتنقّل بين نفس الثلاث بلدان عقب عزله، وتشير تقارير إلى أن الإمارات والسعودية دعمتا انقلابا فاشلا على الأمير حمد لإعادة والده للحكم في 1996، والإشكال السعودي مع الأمير حمد أنه بدا طامحا في الخروج من ثوب التبعية للمملكة، خاصة بعد إطلاق قناة الجزيرة أواخر 1996.

في أزمتيْ سحب السفراء والمقاطعة لم تقم عُمان والكويت بنفس الإجراءات، مما سمح لهما بالقيام بدور الوساطة، لكن ما عمّق الأزمة الحالية أن هناك دعما لتركيع قطر من قِبل الرئيس الأمريكي -المخالف لمؤسسات دولته- وهو ما بدا من تصريحاته منذ بدء الأزمة عندما غرّد على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي "تويتر" قائلا: "خلال زيارتي للشرق الأوسط أكَّدت ضرورة وقف تمويل الأيديولوجية المتطرفة والقادة أشاروا إلى قطر. انظر"، وأيضا: "من الجيد رؤية أن زيارتي للسعودية مع الملك و50 دولة تؤتي ثمارها. قالوا إنهم سيتخذون نهجا صارما ضد تمويل الإرهاب، وكل الأدلة كانت تشير إلى قطر. وربما سيكون هذا بداية النهاية لكابوس الإرهاب" هذا الدعم هو ما رفع من سقف الإجراءات المتخذة ضد قطر التي لا ينقصها سوى إعلان الحرب عليها، خاصة ما تعلق بحظر التنقل وطرد المواطنين القطريين واستدعاء مواطني دول الحصار الخليجية، وهي مؤشرات إملاء سياسات لا رغبة في التفاهم، وأكّد ذلك تأخُّر الدول المقاطِعة في إرسال ورقة مطالبهم لمدة 15 يوما منذ بدء الأزمة مما دفع المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية للتشكيك في الدافع وراء إجراءات المقاطعة قائلة: "كلما مرّ الوقت، ترتفع الشكوك حول تحرّكات السعودية والإمارات.. في هذا الوقت هناك سؤال واحد: هل هذه التحركات تعبر عن انشغالات حول الاتهامات الموجهة لقطر بخصوص دعم الإرهاب أم هي حول مظالم قديمة بين دول التعاون الخليجي؟".

ما أثار الانتباه في هذه الأزمة أن هناك حاكما عربيا لديه نبهاء يشيرون عليه وبدا من سلوكه أنه يستمع لهم، كما أنه لم يأخذ إجراءات عقابية ضد مواطني الدول المقاطِعة، وهو سلوك يمكن وصفه بالأخلاقي بدون التنقيب عن دوافعه، كما أن دول الحصار إذا خرجت دون تحقيق مطالبها الجوهرية، فإنها ستصنع دورا أكبر لدولة أرادوا وضعها تحت وصايتهم، وما أثار الانتباه أيضا أداء وزير الخارجية القطري، رغم صعوبة تولي منصب شغله سياسي كحمد بن جاسم، لكن محمد بن عبد الرحمن آل ثاني أبدى تمرسا ملحوظا في تعامله مع الإعلام منذ بدء الأزمة، ولا يزال الموقف القطري يتصف بالهدوء رغم الانفعال الشديد الذي يبدو من التصريحات الإماراتية-السعودية والتشدد في موقفيهما كذلك، والهدوء القطري مكّن القطريين من تجاوز موجة بدء الحصار وما تلاها من أحداث لدرجة قيام شركات سعودية بالحفاظ على تعاملها مع قطر عن طريق دول وسيطة أبرزها تركيا، مما يعني تفريغ القرارات من مضمونها وذلك بعلم النظام السعودي بطبيعة الحال، فما الذي بقي من أدوات لأطراف الأزمة؟ وما الغرض منها؟

(2)

من جهة أطراف الحصار، فالأوراق أصبحت أقل خاصة بعد تعمدهم الضرب بقوة مع بدء الأزمة دون نتيجة ملموسة، بل ربما حدث تخفيض للمطالب من 13 مطلبا إلى 6 مطالب في اجتماع وزراء خارجية دول الحصار في القاهرة 5 يوليو/ تموز الماضي، ولكن بشكل عام يبقى أمامهم استقطاب دول أخرى للانضمام لموقفهم، ووفقا لتقارير صحافية تقوم السعودية بالضغط على بعض الدول بتأشيرات الحج والعمرة، كما تلعب بعض دول الحصار بأوراق سياسية داخلية كما يجري مع المغرب بأزمة الصحراء (المغربية/الغربية)؛ إذ تحدثت الصحافة السعودية والإماراتية عن الصحراء الغربية بدلا من المغربية عقب موقف الحياد المغربي من الأزمة، وهذا الموقف مخالف لما جاء بالقمة الخليجية المغربية أواخر أبريل/ نيسان 2016 الذي دعم "مغربية" الصحراء، والموقف الإعلامي غير الرسمي أحد أدوات الضغط على المغرب، إلا أن فكرة استقطاب دول أخرى بات صعبا لتعثر الدول المحاصِرة في فرض إملاءاتها سريعا وغياب الدعم الدولي لذلك التحرك، ويبدو أنهم لم يتوقعوا طول أمد فترة الصمود القطري، ولم تنجرف دولة بعد هدوء الموجة الأولى سوى تشاد في 24 أغسطس آب الجاري، وكانت السنغال قد أعادت سفيرها للدوحة في 21 من نفس الشهر بعد سحبه للتشاور مطلع الأزمة.

يبقى أيضا لدول الحصار التضييق التجاري على الشركات المتعاملة مع قطر، وهو أخطر ما قد يصيب قطر لو نجحت فيه دول الحصار، وربما سيساهم الاحتياطي النقدي القطري الكبير في تخفيف حدة الأزمة الناتجة عن ذلك التوجه إذا تم، كما ستسعى لفتح شراكات أخرى لتعويض ما يمكن حصوله من التضييق التجاري مثلما وسعت من علاقاتها مع تركيا وعمان وربما تصبح إيران المحطة الأخرى.

كذلك يمكن لدول الحصار أن تسعى لتعليق أو طرد قطر من عضوية المنظمات الإقليمية أو العربية أو الإسلامية، لكن عدم وجود الدعم الكافي داخل المنظمات التي تحمل قطر عضويتها سيصعّب كثيرا من نجاح تلك الخطوة، وهو ما تؤكده الشواهد الحالية والدعم السياسي لقطر من دول إقليمية وعدم الرضا على الحصار من دول غربية لا تريد اشتعالات جديدة بالمنطقة، كما أن المسارعة التركية في إرسال قوات عسكرية لقاعدتها بقطر كان أشبه بصب ماء بارد على منطقة ملتهبة، وربما هذا ما قلّل من احتمالات قيام عمل عسكري ضد قطر، لتبقى احتمالات الإضرار الاقتصادي والسياسي الذي قد يبلغ محاولة انقلاب -مع صعوبته- كما ذكر وزير الدفاع القطري.

يمكن القول بشكل عام أن السلوك الإماراتي-السعودي بتابعيهم كان متسرعا ومعتمدا على دعم الرئيس الأمريكي فقط، ويبدو أنهم ظنوا أنه كاف للتمادي في الإجراءات ضد قطر، لكن المؤسسات الأخرى هناك أوقفت اندفاعات ترامب وسلوكه العدائي، وصلابة موقف المؤسسات الأمريكية بوجه ترامب، دفعته للاتصال بالسيسي أثناء اجتماع دول الحصار بالقاهرة لتهدئة الأزمة، فخرج البيان دون شيء ملموس سوى تخفيض المطالب، كما تعد اتفاقية مكافحة الإرهاب بين الدوحة وواشنطن يوم 11 يوليو/ تموز الماضي قبيل لقاء وزراء خارجية دول الحصار رسالة واضحة لتلك الدول بعدم قبول ادعاءاتها، خاصة مع تصريح تيلرسون بأن موقف الدوحة من الأزمة "واضح ومنطقي".

(3)

على الصعيد القطري فلا تزال هناك أوراق يمكن استخدامها، إذ لم تقم بسلوك هجومي مقابل، وبإمكانها في حالة تجميد الوضع على حالته أن تقوم بقطع إمدادات الغاز عن الإمارات التي تستورد 30% من احتياجاتها منه من قطر، كما يمكنها إعادة العمالة الوافدة إليها من دول الحصار، وسيكون المتضرر من ذلك الدول التي تعاني اقتصاديا كمصر في حالة عودة مئات الآلاف إليها فجأة، ويمكن كذلك للقطريين أن يصعّدوا من دعوات "تدويل إدارة الحرمين" إذا ثبت وجود مجرد تعنت سعودي في منح تأشيرات تأدية الشعائر للمتواجدين بقطر، وبخلاف ذلك تبقى إمكانية تسريب معلومات عن الأدوار المشبوهة لإحدى دول الحصار في أي بقعة نتيجة معلومات توفرها الأجهزة الأمنية والاستخباراتية كالسجون السرية وانتهاكات حقوق الإنسان، فضلا عن أن الاتهام بالإرهاب مرتبط بالسعودية بشكل أساسي -بغض النظر عن قبول منطلقات التوصيف فضلا عن عدم وضوحه عالميا- كما أن التحرك القطري الحالي لفرض غرامات على دول الحصار تحرك هام ونجاحه سيكون مضمونا في ملفات النقل.

أغلب الظن أن قطر لن تصعّد كذلك من إجراءاتها عقب إخفاق دول الحصار -حتى الآن- في فرض شروطهم، كما أن الأطراف المعنية بالمنطقة لا تريد التصعيد أكثر من ذلك، لكن احتمالية التصعيد القطري ستكون مرتبطة ببقاء الوضع على ما هو عليه، أي عدم رفع الحصار وعدم التصعيد الإماراتي-السعودي كذلك، فبقاء الحصار سيستدعي إجراءات قطرية مقابلة.

(4)

أصبح الوضع الحالي للأزمة العربية معكوسا، فالدول المحاصِرة أرادت صنع أزمة سياسية "لدويلة" كما يقال، فوجدوها صامدة وتحسن استخدام مواردها وتستثمر في العقول السياسية لديها، مما جعل مراقبين يبشّرون بانتهاء الأزمة القطرية في مقابل تأزّم مخالفيها، فكيف تجاوزت قطر الحصار؟

أهم ما مكّن قطر من الصمود هو قيامها باستثمارات مالية ضخمة في عواصم كبرى، فصنعت شبكة علاقات دولية جيدة، ما جعل لها حلفاء يقفون معها وقت الأزمة، كما أنها أصبحت قناة خلفية لإبقاء نافذة حوار مع الإسلاميين عند تأزّم الأمور، وتواجد حماس وطالبان بقطر كان بطلب أمريكي وفقا لديفيد بترايوس مدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق. ودعَمَ قطر كذلك الدخول التركي السريع على خط الأزمة، خاصة إرسال الجنود، في رسالة قوية من إحدى دول حلف الناتو، وأصبح إلغاء القاعدة التركية أحد مطالب دول الحصار.

أصبحت الاحتمالات أمام أطراف الأزمة محدودة تبعا للتماسك القطري والدعم السياسي الذي تلقاه، فإما أن تقوم قطر بإجراءات شكلية كالطلب من بعض المقيمين من الحركات السياسية الإسلامية على أرضها مغادرة البلاد وتهدئة التوجه الإعلامي بما لا يغير خطّه العام، وإما أن يتم توقيع اتفاق جديد بين طرفي الأزمة، ليكون الاتفاق مبررا لإنهاء الحصار، دون تغيير حقيقي في السياسات، وبصورة بعيدة قد تتطور الأمور باتخاذ إجراءات جديدة من أطراف الأزمة بإحدى الأدوات المذكورة من قبل، لكن المؤكد أن العلاقات الخليجية لن تعود كما كانت قبل الأزمة، كما يبدو أن حلفا جديدا يتشكل في المنطقة تعد تركيا ضلعا هاما فيه، وتصير إيران ورقة للمناكفة والمناورة السياسية دون تحالف كامل معها حتى لا تدخل الدولة المتحالفة فيما يُسمى بـ"محور الشر". 

(5)

ما كشفته الأزمة العربية، أن غياب القاهرة وبغداد ودمشق -على اعتلالهم السابق- أثّر كثيرا في المشهد العربي، الذي يدار من قِبَل من لا يعرف سوى الارتهان للغرب ووضع قواعده العسكرية لحمايتهم، كما كشفت الأزمة أن مصر أصبحت دولة شديدة التبعية للمال على حسب احتياجات نظامها السياسي الشَّرِه، وإلا لأخذت نفس الإجراءات مع تركيا التي يتركز الإعلام الإخواني بها وأخذت موقفا سياسيا شديد العدائية معها، مقارنة بقطر التي التقى أميرُها بالسيسي أواخر مارس/ آذار 2015، كما خففت حدة خطابها الإعلامي عن السيسي لحل أزمة سحب السفراء الأولى.

انكشف كذلك أن الطامح لحكم المملكة لا يدخل إلا في المغامرات الكبرى الخاسرة، وهذا لا يؤهله لحكم إمارة فضلا عن بلد كبير له ثقل سياسي وروحي، وللمرة الأولى يبدو أن المملكة بدأت تسير على مركب تقود دفّتها دولة أخرى خليجية. كما وصلت رسالة القوى المضادة للثورات وعلى رأسها الإمارات، أن مرحلة تفكيك الربيع العربي انتهت ودخلنا مرحلة ترسيخ حكم القوى المضادة للثورات وضمان عدم تكرار ما جرى، وارتباط المرحلة الجديدة بتجميد حيوية الشعوب، وتركيع ظهيرها السياسي والإعلامي بالمنطقة، وما يغفل عنه أبناء زايد أن التغيّر سنّة تاريخية وربما آن موعد سُنّتهم لتُشفى صدور الأرامل والأيتام والمكلومين.
0
التعليقات (0)

خبر عاجل