صحافة دولية

أتلانتك: كيف يمكن لأردوغان تغيير معنى تركيا؟

حميد: تأمين النظام الرئاسي في استفتاء نيسان/ أبريل ربما كان أفضل ضمان لإرث أردوغان- أ ف ب
حميد: تأمين النظام الرئاسي في استفتاء نيسان/ أبريل ربما كان أفضل ضمان لإرث أردوغان- أ ف ب
نشرت مجلة "ذا أتلانتك" مقالا للأكاديمي شادي حميد، يتساءل فيه عن الكيفية التي يمكن من خلالها لرجل واحد قوي أن يغير بلاده. 

ويحاول حميد الإجابة عن هذا السؤال في سياق تجربة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ويقول إن "السياسيين، خاصة الأيديولوجيين منهم، عليهم أن يواجهوا بطريقة تدريجية (ماذا بعد؟)، وبالنسبة لأردوغان، الذي انتصر بهامش ضيق في الاستفتاء، الذي نظمه في نيسان/ أبريل، (وسط مزاعم للمعارضة بحدوث تزوير واسع)، فإن أمامه فرصة ليحكم البلاد بسلطات واسعة حتى عام 2029، ولديه أكثر من عقد من الزمان ليعيد تشكيل تركيا وتغيير معنى أن تكون (تركيا)".

ويشير الكاتب في مقاله، الذي ترجمته "عربي21"، إلى أنه "في المرحلة الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية، الحزب المتجذر بالإسلامية، في عام 2002، حكم بلدا في حالة من النمو المتسارع، ودفع باتجاه إصلاحات ليبرالية، وهمّش الجيش، الذي أضعف الديمقراطية التركية لعقود، من خلال سلسلة من الانقلابات، فهل كان هذا ما يريده حزب العدالة والتنمية وزعيمه المتقلب الناري تحقيقه؟".

ويؤكد حميد أن "الحزب أصبح ضحية لنجاحه، وكان بإمكانه توسيع الحريات والديمقراطية، ومواصلة جهود تقوية الاقتصاد، فالرئيس أردوغان، الرجل الذي ينظر إلى نفسه من خلال الشروط التاريخية، يريد أن يتذكره الناس بالرجل الذي أحدث نقلة في تركيا، لا الرجل الذي حسّن وضعها، فأن تكون أحسن وأفضل التكنوقراط ليس كافيا، خاصة أن لا مكان في رؤية أردوغان للموقع الفردي، وهي حقيقة تمظهرت من خلال صراع السلطة، والسقوط اللاحق لرئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو، الذي يعد أحد قادة حزب العدالة والتنمية التاريخيين، ومهندس سياستها الخارجية".

ويرى الكاتب أن "مواجهة أردوغان للمعارضة الداخلية والخارجية تطرح أسئلة محيرة حول دور الرجال العظام في السياسة؛ ما هي أهمية رجل في أمة ذات تاريخ غني وتقاليد ومؤسسات قوية بشكل نسبي؟".

البعد الفردي

ويجد حميد أن "علماء السياسة لم يرتاحوا عادة للتعويل كثيرا على الأفراد ونسبة الأهمية لهم؛ لأن هذا سيعقد من مهمة البحث عن النتائج العرضية، والقدرة على التوصل لتعميم بشأن الحالات، وببساطة فإنه من الصعب (نمذجة) دور الأفراد". 

ويلفت الكاتب إلى مقال كتبه كل من دان بيمان وكين بولاك، تحت عنوان "إخراج النساء والرجال أفرادا من سباتهم"، مستدركا بأن "التحدي هو تحديد متى يكون الأفراد مهمين أكثر من أي وقت مضى، وأحد التحديات عندما تكون المؤسسات ضعيفة وأقل انضباطا، وأحد الأسباب التي تجعل المؤسسات ضعيفة هي أن القادة المتعطشين للسلطة يقومون بتحديها وتجاهلها بل تفكيكها، ففي هذه الظروف قد يكون القيادي الطامح مؤثرا بدرجة مضاعفة، حيث يقول بيمان وبولاك: (يمكن للقائد الطامح تجاوز حتى المؤسسات القوية)، وهو ما استطاع أردوغان عمله عندما كان يواجه (الدولة العميقة)، وهي عبارة عن شبكة ظل تتكون من الجيش والقضاء وخدمات الأمن".

القصر الأبيض

ويقول حميد: "بدا الأمر ناجحا، ودخل في وعي الرئيس، وتوضح عندما دخلت (القصر الأبيض) عام 2015، بعد افتتاحه بفترة قصيرة، وسط أجواء من الجدل، وبدأ أردوغان، وبشكل متزايد، بتقديم نفسه على أنه رجل دولة على مستوى مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة، وهو الرجل الذي ألغى الخلافة العثمانية عام 1924، وأصدر أردوغان فيديو يشير إلى أنه يقود تركيا في (الحرب الثانية للاستقلال)، وبعد نشر الشريط بدأ حزب العدالة والتنمية يشير إليه بـ(باني تركيا)".

ويضيف الكاتب أنه عندما كتب عن النموذج التركي في كتابه "الاستثنائية الإسلامية"، فإنه كان مهتما بأمرين، أولا: ما هي أهمية أردوغان بصفته فردا؟ والثاني متعلق بالأول، إلى أي مدى كان أردوغان مدفوعا بالاهتمامات الدينية؟

ويتابع حميد قائلا إنه "من الصعب تخيل عبدالله غول، المؤسس المشارك للحزب، شخصية انقسامية ومثيرا للاستقطاب مثل أردوغان، حيث ناقش البعض أن غول هو شخصية مجمع عليها، ويمكنه تحدي أردوغان، فماذا سيحدث لو أصبح غول بروفيسور الاقتصاد والشخص الهادئ زعيما لحزب العدالة والتنمية؟ وبحسب أحد مستشاريه السابقين، فإن غول (يكره الخطاب الشعبوي، وهو رجل براغماتي، وينظر للأمر ويقول لا توجد أي طريقة لأقوم بهذا العمل، فلماذا أخاطر؟ ويريد أن يتدين الناس أكثر، ولهذا فهو يخشى من أثر الخطاب الانقسامي على القضية)، ورغم براغماتية غول، إلا أنه اكتشف أن المحافظة الدينية والاجتماعية هي الطريقة لتعبئة القاعدة في بلد ينبع الانقسام الأساسي فيه من الهوية والأيديولوجية والدين".

التدين

ويقول الكاتب: "المحافظة الدينية مهمة من الناحية الانتخابية، فهي مهمة من الناحية الشخصية، ولا مجال للشك أن أردوغان يعتقد بأهمية تدين الناس، وأشار مسؤول بارز سابق في حزب العدالة والتنمية إلى وفاة والدة أردوغان في تشرين الأول/ أكتوبر 2011، باعتبارها نقطة محورية، قائلا: (كان أردوغان مثل الطفل الصغير عندما يكون معها)، وأخبره أنه بعد وفاتها أصبح يفكر كثيرا بالموت، وواضح هنا الإيمان الإسلامي، وهو أن كل شخص سيواجه الله في يوم القيامة، وسيسأله عما عمل وواجباته، بالإضافة إلى أن الله لن يكون مهتما فقط بالأتراك فقط، لكن بالأمة كلها، ويشير إلى الحديث الشريف: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته..)، ولو كان أردوغان الراعي فالأتراك هم رعيته، والدولة هي أداته".

وينوه حميد إلى أن "أردوغان أظهر اهتماما واضحا لاستخدام سلطة الدولة من أجل التحفيز على التقوى وليس فرضها، وبعبارات أخرى ليس من خلال التطبيق المباشر للقانون الإسلامي، المرتبط عادة بالأسلمة، لكن من خلال (الأسلمة الناعمة)، فبدلا من منع الكحول، الذي سيكون غير ممكن في تركيا، (وربما ليس دستوريا لو تم منعه لأسباب دينية)، قام حزب العدالة والتنمية بزيادة الضريبة عليه، ومنع بيعه بعد العاشرة مساء، وقدم الحزب معونات مالية للأزواج الذين يتزوجون مبكرا، ومن لديهم أكثر من ثلاثة أطفال صاروا يستحقون الدعم المالي، ولم يذهب الحزب بعيدا لتشريع يقيد عملية الإجهاض، إلا أن هذا ما أثار ضيق زعيم الحزب الفعلي، وقال أردوغان ذات مرة: (لا يوجد فرق بين قتل الجنين في رحم الأم وقتل الشخص بعد ولادته)، وكان الرئيس يقوم بدور (القائد الروحي)، حيث أشرك المواطنين بآرائه عن الحياة الفاضلة، وكما قال لي مسؤول في حزب العدالة، فإن أردوغان (يتصرف في بعض الأحيان كأب، فليس كل ما يقوله هو قانون، إنما هو مقترح، لكنه أيضا لحماية الشباب من الأمور السيئة)". 

ويعتقد الكاتب أن "هذا النوع من الإسلامية المشخصنة يظهر محدودية الحركات الإسلامية المعاصرة، فعندما أشعل إسماعيل كهرمان، أحد قادة حزب العدالة والتنمية ورئيس البرلمان، جدلا من خلال دعوته لمحو المبادئ العلمانية من الدستور، أبعد أردوغان نفسه عن التصريحات، لكن ما كان يدعو إليه كهرمان ليس مضرا في أماكن أخرى، فالدساتير في الشرق الأوسط لا تضمن العلمانية فيها، وأمر طبيعي أن يدعو حزب جذوره إسلامية للغة محايدة للدستور، (فدستور الولايات المتحدة مثلا لا يحتوي على كلمة علمانية، ولا يقيد مثل الدستور التركي حرية التعبير الديني في الحياة العامة)". 

دون منظرين

ويقول حميد إن "أردوغان لديه رؤية للمجتمع، لكنها ليست مشكلة بشكل جيد، بالإضافة إلى أن حزب العدالة والتنمية ليس لديه منظرون، ويملك إسلاميو تركيا الأفكار، إلا أنهم ليسوا قادرين على التعبير عنها بطريقة متماسكة، ويعد إبراهيم كالين، المستشار الرئيسي للرئيس، الذي يوصف أحيانا بذراعه الأيمن، وعمل أستاذا للفلسفة في جامعة جورج تاون، في واشنطن دي سي، وكتب سيرة للفيلسوف الشيعي ملا صدرا، وكان يعود للكتب وينتقد نفسه عندما جلس معي في عام 2015 في القصر الأبيض، وبدا وكأنه في حوار مع نفسه وهو يناقش الفلسفة الإسلامية الكلاسيكية، ويحترم كالين أردوغان، الرجل الذي خدمه بولاء لمدة طويلة، ولاحظت أنه مستسلم، وأنه يمكن التأثير على أردوغان لنقطة معينة، وفي النهاية قال: (دع أردوغان يكون أردوغان)، ومثل بقية المثقفين ممن دخلوا السياسة يبدو كالين سعيدا لو كان أستاذا في الجامعة".

التجربة

ويذهب الكاتب إلى أن "أردوغان يظل هو نفسه الذي شكلته تجاربه، التي كانت حدسية وليست فكرية، ولو كانت فكرية فستكون الأفكار التي تستخدمها (ديانت) وزارة الشؤون الدينية، التي يستخدمها للترويج للأسلمة، وهي التي استخدمها أتاتورك للهدف المضاد، وفي ظل حزب العدالة والتنمية ضاعفت (ديانت)، التي تقوم بتدريب الأئمة وإدارة المساجد والمدارس الدينية، وتشرف على خطب الجمعة، ميزانيتها أربعة أضعاف، ومع أن أبناء الأقليات يسمح لهم بالإعفاء من الحصص الدينية، إلا أن الدروس الدينية أصبحت إجبارية في المدارس الحكومية، وفي خطاب لأردوغان عام 2015، قال مفتخرا إن التسجيل في مدارس الخطباء زاد من 65 ألف طالب إلى مليون، وهو تحول مهم يسهم في تشكيل الطريقة التي ينظر فيها الشباب للدين".

ويفيد حميد بأن "الإشارات التقنية حول زيادة الدخل القومي للفرد لا تجسد رؤية أردوغان (تركيا الجديدة)، وأصبح المصطلح منتشرا بين الموالين لحزب العدالة والتنمية في عام 2014، وكما شرحته صحيفة (يني شفق): (تركيا الجديدة ليست شعارا، إنه مشروع، وهو إعادة تصميم وإعادة تشكيل تركيا بعد قرن)، وعادة ما يستخدم الإسلاميون كلمة (مشروع) لشرح فكرة تغيير المجتمع من القاعدة إلى القمة".

ملاذكرد

ويقول الكاتب: "ربما لم يكن عرضا في هذه الخطة طويلة الأمد أن حزب العدالة يأمل (يخطط؟) لحكم تركيا حتى عام 2071، وهو عام الحدث المهم، وإن لم يكن معروفا، وهو مرور الألفية الأولى على دخول الإمبراطورية السلجوقية في عام 1071 لتركيا، بعد هزيمتها البيزنطيين في معركة ملاذ كرد (مانزيكرت)، وقد يبدو عام 2071 بعيدا، إلا أن البقاء في السلطة حتى عام 2071 هو هدف متواضع، ففي آب/ أغسطس قال رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو إن حزب العدالة والتنمية (بدأ بصفته حركة جيل، لكنه ليس مقتصرا على جيل، ولا حتى مرتبطا بأجيال أو قرون، فهو اسم كفاح من أجل العدل والحق الذي ينبع من أعماق القرون، ويتواصل حتى نهاية الزمن)".

ويشير حميد إلى أن "صموئيل هنتنغتون وصف في كتابه الذائع الصيت (صدام الحضارات) تركيا بأنها في الجوهر (بلد ممزق)، ودولة يمكن أن تتخلص من مشكلة التمزق لو أصبحت (دولة جوهرية) على رأس العالم الإسلامي، بدلا من أن تكون عضوا غير مريح في الغرب، وحتى يتحقق هذا ناقش هنتنغتون أن على تركيا (رفض إرث أتاتورك بعمق أكثر مما رفضت فيه روسيا لينين، ويحتاج الأمر لقائد يتمتع بمكانة، ويجمع ما بين الشرعية السياسية والدينية؛ ليعيد تشكيل تركيا من بلد ممزق إلى بلد جوهري)، وكتب هنتنغتون هذه الكلمات عام 1996، عندما كان أردوغان عمدة شاب لمدينة إسطنبول، ولا يعرفه إلا القلة خارج تركيا".

أين النموذج التركي؟

ويرى الكاتب أن "حالة تركيا هي قصة مثيرة، وهي يمكن أن تكون ميكروسكوما لربيع الشرق الأوسط، الذي كان يمكن، أو يجب أن يتحول لقصة مختلفة، فخارج قطاعات الإسلاميين المتعددة ألوانهم لم يعد أحد يتحدث عن (النموذج التركي) على الأقل دون مفارقة أو للإشارة إلى انزلاق البلد في دوامة النزاع السياسي، وهجومها المستمر على حرية الإعلام، (ولم تعد الأحزاب الإسلامية الواعية بنفسها، مثل حزب النهضة التونسي، تتحدث عن تركيا كما كانت عناصرها تتحدث)، وكما كتب الصحافي التركي مصطفى إيكول في عام 2016: (قبل خمسة أعوام كان الجميع يتحدث عن (النموذج التركي)، وفي هذه الأيام أنظر لتلك الأوقات بحنين وندم)".

ويقول حميد: "على ما يبدو لم يعد إسلاميو تركيا يعيرون الأمر اهتماما كبيرا، فهم يركزون في معركتهم الآن على الداخل، التي تتفوق على أي شيء آخر، فالنتيجة من ناحية الإرث والتاريخ ربما لن تأتي إلا في عام 2029 أو 2071، أو ربما في الحياة الأخرى، ولا يهم، كما قال أحد مستشاري أحمد داوود أوغلو: (يعيش العلمانيون مع جثة أتاتورك، ونريد أن نأخذ أتاتورك لقبره مرة أخرى)". 

ويتذكر الكاتب كيف نظر إليه نظرة متسائلة، لكن المستشار لم يهتم، فقد أصبح هذا الأمر بالنسبة له عقيدة، حيث يقول: "لم أكن متأكدا لو كان يعرف، لكن التلفاز خلفه كان يبث خطابا حماسيا لأردوغان، وهو تذكير بأنني في أي مكان ذهبت وتجولت فيه في تركيا فالرئيس على ما يبدو يراقبنا".

ويبين حميد أنه "قبل عقود قام أتاتورك بتغيير الأسس لما يعني أن تكون (تركيا)، ولصناعة تركيا على صورته فقد كان عليه ألا يكون غير متسامح وعديم الرحمة، واقتضى الأمر مركزة للسلطة، وهدف ضيق الأفق بعيد المدى، خاصة أن معظم الأتراك لم يدعموا فكرة العلمنة التي يريدها أتاتورك، على الأقل في البداية".

ويجد الكاتب أنه "في هذه الحالة فإن مقتضيات بناء الدولة، التي تحتاج إلى مراكمة السلطة ومطالب الدمقرطة، تستدعي موازنة توزيع السلطة، ولهذا فهما في حالة تناقض، وبعد قرن تقريبا لا تزال الدولة هي الجائزة، ويريد أردوغان الحصول عليها مستخدما نموذج أتاتورك القائم على الهندسة الاجتماعية التي تنبع من الدولة، في محاولة منه لتفكيك ما تم عمله قبل ولادته، وبالنسبة لبقية العالم فهذا شكل من الديكتاتورية، ويراه أردوغان عدالة، وهي عودة الدولة لحالتها الطبيعية من التدين قبل أن يقوم أتاتورك بتغيير الحالة التي كانت الدولة عليها دائما".

ويتساءل حميد: "فكيف يفسر أردوغان الملتزم الإسلامي الانقلاب على أنه جزء من خطة إلهية؟".

منحة من الله

ويلفت الكاتب إلى أن "ألقاعدة الشعبية المحافظة لحزب العدالة والتنمية ظلت صابرة طوال العقد الأول من القرن الحالي، حيث ركز الحزب على الترويج للإصلاحات الديمقراطية، ودفع الطبقة المتوسطة المتدينة، التي استفادت بشكل كبير من النمو الاقتصادي بقيادة حزب العدالة والتنمية، وطلب قادة حزب العدالة والتنمية منهم الصبر، وأن التغييرات مثل رفع الحظر على ارتداء الحجاب في الجامعات والمؤسسات العامة سيأتي في وقته، فلم يكن بإمكانهم المخاطرة ومواجهة الدولة بشأن موضوع حساس كهذا، وهو موضوع يمكن أن يتحدى العلمانية العنيدة للدولة التركية التي لا تقع تحت سيطرتهم".

ويبين حميد أن "أردوغان لم يكن في حينه راغبا بمساءلة البنى الأساسية للدولة الحديثة، ولماذا يجب عليه؟ فكل ما كان يعرفه هو الدولة القوية، وكان على الجانب الذي يتلقى الأوامر، ولوقت طويل، (بما في ذلك فترة قصيرة في السجن؛ لأنه القى قصيدة دينية)، وكانت لديه رؤية واضحة لإحياء المجتمع التركي، قائمة على إحياء الماضي العثماني، والعودة لفطرة الإسلام، تماما كما أقامت الدولة الكمالية صورة عن التركي النموذجي، فالدولة في ظل أردوغان ترغب ببناء مثالها الخاص (المختلف) نموذج التركي التقي، وبالنسبة لأردوغان فهذا هو (عكس أتاتورك)".

وينوه الكاتب إلى أن "تركيا شهدت في 15 تموز/ يوليو 2016، آخر محاولاتها الانقلابية، التي فاجأت حتى مراقبي الشأن التركي ذوي الخبرة، وبناء على نموذجه الرياضي، فإن العالم السياسي جي أولفيلدر وضع احتمالية انقلاب في تركيا بنسبة 2.5%، وكانت المحاولة في حس منها منحة إلهية، كما فهمها أردوغان مباشرة، حيث وصف المحاولة الانقلابية بعد فشلها بأنها (هدية من الله)، ورأى البعض في هذا تناقضا في التعبير، وأشاروا إلى مؤامرة واسعة، والتفسير الصحيح ربما كان الأبسط: اعتقد أردوغان بالمعنى الحرفي أنها منحة من الله، حيث كان المتآمرون قريبين منه، وكادوا يقتلونه في الفندق الذي كان يقيم فيه، لكن كيف لأردوغان الإسلامي الملتزم أن يفسر الانقلاب إلا أنه جزء من خطة إلهية؟".

ليس مخلدا

ويقول حميد: "كان هناك الكثير من التشوش حول حس النهاية عند أردوغان، لكنه وضح هذا في مقابلة بعد استفتاء نيسان/ أبريل، الذي منحه انتصارا بهامش ضيق، وقال: (أنا لست مخلدا، ويمكن أن أموت في أي وقت)، وهذا تعليق قدري، يقدم رؤية مهمة حول تفكيره، فأردوغان ينظر لنفسه على أنه رجل غير مخلد، وبصفته بانيا للجمهورية الثانية، وهو طموح يسعى لتأمينه".

ويضيف الكاتب أن "الصورة الدينية والسياسية لما فعله أردوغان بعد الاستفتاء لم تفت ملاحظة الغرب، لكنه كان فعلا محملا بالرمزية لمن يفهمون الرموز، حيث قام إلى جانب إبراهيم كالين والمسؤولين المهمين بزيارة ضريح الصحابي أبي أيوب الأنصاري، وهو الصحابي الذي شارك في أول حصار للقسطنطينية، ودفن في أسوارها، وعندما سقطت المدينة بعد 8 قرون، تحول ضريح الأنصاري لأهم المزارات المقدسة في إسطنبول، يزوره السلاطين الجدد، ويتوجون فيه، وزار أردوغان ضريح السلطان سليم الأول، الخليفة الذي عزز سيطرة السلطنة على الحرمين الشريفين في مكة والمدينة".

ويشير حميد إلى أن "أردوغان وجد وقتا لزيارة رموز سقطوا في العصر الحديث، حيث زار قبر عدنان مندريس ونجم الدين أربكان، وكان أربكان أول إسلامي ينتخب في الشرق الأوسط، وأجبر على الخروج من الحكومة في عام 1997، بعد انقلاب ناعم، وكان مندريس أول رئيس وزراء ينتخب ديمقراطيا، وخفف من القيود المفروضة على الممارسة الدينية، وشنق عام 1960، بعد الانقلاب العسكري، ويتعامل أردوغان مع شنق مندريس على أنه لحظة وعي ونضج، مع أن عمره كان سبع سنين في وقت إعدام مندريس، لكنه يرى أنه يأخذ مشروع مندريس لنتيجته المنطقية، وهي تعزيز حاضر تركيا ومستقبلها الإسلامي، إلا أن أردوغان يعرف جيدا أنه قد لا يعيش ليرى رؤيته تتحقق، ويخشى أردوغان من محاولة تسميمه، ولهذا فإنه يتم فحص الطعام كله، من خلال خمسة خبراء في القصر الأبيض".

ويختم الكاتب مقاله بالقول: "إذا كان أردوغان يعرف أنه لن يعيش للأبد، فإن تأمين النظام الرئاسي في استفتاء نيسان/ أبريل ربما كان أفضل ضمان لإرثه، فمن خلال خلق رئاسة تنفيذية منتخبة، فإن المتدينين الأتراك سيحصلون على الرئيس الذي سيهتم بهم، أيا كان الشخص في المنصب الرئاسي، وباختصار، وإذا لم يحدث انقلاب عسكري أو أزمة، فإن الرئيس التركي من حزب العدالة في المستقبل القريب يحتاج لأن يقبل أو يتبنى التراث الديني التركي، وفي النهاية فإنه سيتم حمل أتاتورك إلى قبره، فالموقف الدولي وتراجع النموذج التركي بالنسبة لأردوغان هما ثمن بسيط كان عليه دفعه".
التعليقات (0)